بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أحمدك على ما ألهمتني سبل السعادة، وأصلي واسلم على نبيك محمد خير من نهض بالرسالة [واستقام في العبادة (1) وعلى آله المخصوصين بالولاية خير أئمة وسادة، وأشهد أن لا إله إلا أنت شهادة تؤدي حق الشهادة] (2).
وبعد فهذه عناوين الأصول المتلقاة التي أمرنا أن نفرع عليها، وقوانين الفصول التي ينبغي أن يستند إليها، حررناها امتثالا لأمر الملك (3) المنان، وقضاءا لحق الأخوان من أهل الأيمان، مراعيا في ذلك كلمة الأصحاب (4) [الذين هم أهل الديار، المتصلون بأهل بيت الحكمة والأسرار] (5) راجيا من الله أن يجعلها كلمة باقية، وتعيها اذن واعية.
صفحه ۱۷
عناوين المشتركات في أبواب الفقه (العنوان الأول) (في اشتراك التكليف)
صفحه ۱۹
عنوان NoteV01P020N01 إذا ثبت حكم لأحد المكلفين بخطاب لفظي أو بغيره مفيد للعموم أولا فهل القاعدة تقضي (1) باشتراك سائر المكلفين معه في ذلك الحكم، أولا؟
وهذه من المسائل التي تغلب الحاجة إليها في الفروع، إذ معظم الأدلة لم يرد بعنوان قضية كلية [حتى] (2) تشمل الأحوال والأزمان والأشخاص، بل وردت في وقائع خاصة دعت الحاجة للمكلفين على السؤال عنها، فلا عموم فيها. ولا ينفع في ذلك القول بعموم الخطابات الشفاهية - كما ذهب إليه جملة (3) من المحدثين - لأنه أخص من المدعى، إذ في الخطابات ما ورد مختصا بالنبي صلى الله عليه وآله وما ورد مختصا بأهل البيت عليهم السلام وما ورد مختصا بالمؤمنين، أو بالمسلمين، أو بالرجال دون الإناث، وما ورد مختصا بشخص واحد في ظاهر اللفظ كلفظ (افعل) و (افعلي) مما يختص بواحد، كما لا يخفى على المتتبع في الروايات (4) بل الخطابات العامة التي يدعى شمولها للكل أقل قليل في الباب بالنسبة إلى غيرها،
صفحه ۲۰
مع أن الحق عدم العموم في الخطابات الشفاهية (1) - على ما قرر في الأصول - بل القائل بالعموم (2) خارج عن محل النزاع، كما يظهر للمتأمل.
والحق أن الأصل هو الاشتراك، ولنا على ذلك وجوه:
أحدها: أنه قد قرر في محله عدم خلو الواقعة المحتاج إليها عن الحكم بمقتضى الأخبار ومصير الأخيار واعتضاد العقل السليم، فإذا ثبت لأحد في واقعة حكم فينبغي ثبوته لغيره أيضا في تلك الواقعة، لعدم إمكان الخلو، واستلزام الحكم الجديد تعدد الجعل والتشريع المشكوك فيه، فالأصل يقضي بعدمه. وهذا في صورة كون الحكم المجعول إباحة لا كلام فيه، لوضوح توقف جعل حكم غيرها على أمر جديد منفي بالأصل.
وليس لأحد أن يقول: عموم الإباحة - أيضا - مستلزم لجعل متعدد.
لأنا نقول: يلزم ذلك لو لم تكن الإباحة مجعولة بجعل عام، والمفروض ثبوته فيها، فالدخول تحتها لا يحتاج إلى حادث جديد بخلاف الخروج عنها.
وكذا لو كان غير الإباحة، وانتفى احتمال الإباحة في غير مورد الدليل، فإن امتناع جعل الحكمين المتضادين بجعل واحد وأصالة عدم جعل آخر يقتضي الاشتراك.
وأما في صورة احتمال الإباحة في غيره فنقول أيضا: جعل الإباحة لغيره أمر مشكوك، والأصل عدمه، وعموم دليل الإباحة غير نافع بعد خروج الواقعة عنها في الجملة، ولا ندري أن ذلك على الإطلاق أو لا.
اللهم إلا أن يقال بالاقتصار على القدر المتيقن من مورد الدليل، والتمسك في محل الشك بأصالة البراءة. ويمكن دفعه بإثبات الاشتراك هنا بعدم القول بالفصل، وفيه كلامان:
صفحه ۲۱
أحدهما: منع حجيته بضميمة الأصل.
وثانيهما: إمكان قلبه بإثبات عدم الاشتراك هنا بالأصل، وإلحاق غيره به بعدم القول بالفصل. ويندفع بضعف الأول، وعدم مقاومة الأصل الحكمي للأصل الموضوعي، فتأمل.
قيل: على القول بجواز خلو الواقعة عن الحكم لا يتم هذا الوجه، لأصالة عدم الحكم في غيره.
قلنا: أولا لا نسلم القول بخلو الواقعة عن الحكم في مثل الفرض، إذ القائلون به أرادوا خلو الواقعة عنه بالمرة. وأما ثبوته فيها لبعض وخلوها عنه لآخرين فهذا لم نجد من صرح بذلك، فهو منفي بالإجماع المركب.
وثانيا نقول: كما يحتمل تعلق الحكم على الواحد مختصا فكذلك يحتمل تعلقه عليها في ضمن الكل بجعل واحد، فنفي أحدهما بالأصل غير ممكن.
وثالثا نقول: محل البحث الاشتراك في الأحكام في قبال التغاير، لا في مقابل عدم الحكم كما في أفعال البهائم وغير المكلفين، فالخلو عن الحكم خارج عن محل النزاع حقيقة ، فلا وجه لإدراجه فيه.
الثاني: الاستصحاب، وتقريره: أن الحكم إذا ثبت لواحد أو لجماعة في زمان وشك (1) في زوال ذلك الحكم بزوال هؤلاء باحتمال كونهم قيدا فيه، وعدمه باحتمال كونهم موردا، إذ الفرض عدم دليل على الاختصاص فمقتضى (2) الاستصحاب بقاء الحكم المجعول، فيلزم من ذلك تعلقه بمن سيجئ بعدهم أيضا، إذ لا معنى لبقاء الشريعة والأحكام إلا جريانها في المتجددين من أهل التكليف، وعلى هذا مدار استصحاب الأديان.
ودعوى: أن بقاءها على حسب ما ثبت فيه من الموضوع، ساقطة بما مر من التقرير.
صفحه ۲۲
قيل (1): هذا أخص من المدعى، لعدم استلزامه ثبوت الحكم للمعاصرين لمن ثبت الحكم في حقه، وكذا لجميع من يلحقه في الوجود، لكفاية تكليف واحد من اللاحقين به في بقاء الحكم، فلا يفيد عموم الاشتراك.
قلنا: يتم الكلام في غير ذلك:
أولا: بعدم القول بالفرق.
وثانيا: بعدم تعيين ذلك من الشرع، كما هو الفرض. فالمتجه العموم.
وثالثا: بعدم إمكان الترجيح بلا مرجح، وظهور عدم الفارق.
الثالث: ظهور اتفاق الأصحاب على ذلك، كما يشهد به استدلالهم بالخطابات الخاصة في إثبات عموم الحكم خلفا بعد سلف. وليس ذلك لقولهم بعموم الخطاب الشفاهي قطعا، لتصريح الأكثر في الكتب الأصولية بعدم العموم، ولتمسكهم بما لا يجئ فيه احتمال العموم. وبهما يندفع ما قيل: إنه لو لم يكن لعموم الخطاب لزمهم التنبيه على دليل الاشتراك، إذ هو العمدة، لمعارضته أولا بما مر، واندفاعه ثانيا باتكالهم على الضرورة أو القاعدة. وهذا مؤيد آخر للاشتراك، فإن سكوتهم عن إقامة الحجة عليه كاشف عن كونه ضروري الدين.
قيل (2): لو كان أصحابنا مجمعين على ذلك لما اختلفوا في وجوب صلاة الجمعة ونحوه من الفروع.
قلنا: ليس ذلك لمنع الاشتراك، بل لاحتمالهم كونه مشروطا بوجود الأمام أو نائبه الخاص، وورود الإطلاق مورد الغالب من كون المخاطبين واجدين للشرط (3) غالبا أو مطلقا، عملا بالظاهر، إذ الاشتراك فرع اتحاد نوع الواقعة وصنفها (4) بالنظر إلى التكليف وشرائطه. الرابع: الإجماعات المحكية في موارد متعددة على أصالة الاشتراك عدد التواتر.
صفحه ۲۳
الخامس: تنقيح المناط القطعي نظرا إلى أن الأحكام التابعة للمفاسد والمصالح النفس الأمرية لا تختلف بحسب أفراد المكلفين، للزوم دفع المضرة وجلب المنفعة اللازمة على الكل.
قيل: المفروض تبعيتها للوجوه والاعتبار، ولعل للخصوصية مدخلية.
قلنا: قد قرر أن الوجوه والاعتبار يراد بها ما عدا خصوصيات المكلفين من حيث هم كذلك، لأنها أشخاص مختلفة لا يدور مدارها الأمور النفس الأمرية، بل مدارها على المفاهيم العامة، كالمريض والصحيح، والمسافر والحاضر، ونحو ذلك من الصفات اللاحقة للمكلفين أو اللاحقة للأفعال. وأما مع اتحاد ذلك كله فخصوص زيد وعمرو لا دخل لها في ذلك.
قيل: هذا ينتقض بخصائص النبي صلى الله عليه وآله.
قلنا: لا نسلم كون الخصائص لشخصه، بل إنما هو لعنوان كلي، غايته انحصار ذلك في الفرد الواحد، ولو وجد له نظائر في ذلك العنوان لاشترك معه في ذلك.
قيل: فلعل في كل مقام اعتبر هناك خصوصية.
قلنا: الأصل عدم اعتبارها في الحكم إلا أن يقوم دليل عليه، إذ الاحتمال لا ينفع.
ودليلنا على ذلك: طريقة العقلاء، فإنا نراهم إذا وجدوا رجلا فعل فعلا فتضرر به، أو فعل فعلا انتفع به انتفاعا لازما، فإنهم يجتنبون عن الأول، ويرتكبون الثاني ولو مع الشك، ولا يلتفتون إلى أن ذلك لعله لخصوصية في ذلك الرجل لا نعرفها، فتبصر.
السادس: الاستقراء، فأنا وجدنا أغلب التكاليف والأحكام مشتركة بين المكلفين كافة، ولم نجد الفرق إلا في مقامات نادرة، فإذا شك في الاشتراك والعدم فينبغي الإلحاق بالغالب.
السابع: إطباق أهل الأديان كافة على الأخذ بما يصل إليهم ممن سبقهم من الموجودين أو السامعين، من دون سؤال عن أن ذلك هل كان لخصوصية هناك أو
صفحه ۲۴
لا؟ ولا ريب أن ذلك لما انغرس في أذهانهم من كون التكليف الثابت عاما لكل مكلف، ولا مدخلية للخصوصيات. وهذا كاشف عن كون الواقع كذلك وإن لم نعرف مأخذه.
الثامن: ما دل على لزوم التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام من آية أو رواية، وما دل على حجية فعلهم عليهم السلام إذ ليس ذلك إلا لمشاركة الرعية معهم في ذلك.
قيل: هذا أخص من المطلوب.
قلنا: يتم بوجهين:
أحدهما: عدم القول بالفرق.
وثانيهما: أن اشتراكنا معهم مع وجود أمارة الاختصاص فيهم ووجود بعض الخواص بهم بحيث يحتمل كون المشكوك فيه من ذلك يدل على اشتراك بعضنا مع بعض بالأولوية.
التاسع: الخبر المعروف: (حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد صلى الله عليه وآله حرام إلى يوم القيامة) (1).
قيل: لعل معناه: بقاء الحكمين بالنسبة إلى من ثبت في حقه.
قلنا: بعد موته لا معنى لبقاء الحل والحرمة بالنسبة إليه.
قيل: لعل المراد: لو فرض بقاؤه إلى يوم القيامة.
قلنا: هذا فرض نادر لا يراد من العبارة، والمتبادر خلافه، إذ الظاهر بقاء أحكام الشرع، وتكليف كل من يتجدد من الناس بذلك.
قيل: لا يشمل غير الحكمين. قلنا: ظاهر الحلال مطلق المأذون فيه، فيشمل غير الحرمة سيما مع مقابلته بها، مع أنه يمكن الإتمام بعدم القول بالفصل.
صفحه ۲۵
العاشر: قوله صلى الله عليه وآله: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة) (1).
قيل: لعل المراد: جماعة خاصة.
قلنا: لا ريب أن المتبادر من العبارة كون الحكم على البعض الحكم على الكل، وهو الحجة.
الحادي عشر: رواية أبي عمرو الزبيري (2) عن أبي عبد الله عليه السلام في باب الجهاد: (حكم الله عز وجل في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء، إلا من علة أو حادث يكون، والأولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يسئل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسئل عنه الأولون، ويحاسبون به كما يحاسبون به) (3). ووجه الدلالة، لو أريد من الخبر جنس الأول والاخر واضح.
نعم، في افراد الأول يجئ احتمال عدم الشمول، لكن العرف يدفعه.
وإذا أريد الاستغراق فيكون دالا على اشتراك كل فرد من الأول مع كل فرد من الاخر، وهذا يستلزم اشتراك الأولين بعضهم مع بعض أيضا، لأن الفرد من الأولين يشاركه كل من الآخرين، وكل من الأولين يشاركهم في ذلك، فيشترك الكل.
قيل: لا يشمل ما لو ثبت الحكم لواحد من الأولين خاصة، فلا يدل على اشتراك الآخرين معه، لاحتمال إرادته في ضمن العموم، لا وحده.
قلت: ظاهر الاستغراق عدم ارتباط الواحد بالكل.
الثاني عشر: قوله تعالى: لأنذركم به ومن بلغ (4) وهذا يدل على أن الغائب كالحاضر في الحكم وإن لم يشاركه في الخطاب.
صفحه ۲۶
الثالث عشر: قوله صلى الله عليه وآله: (فليبلغ الشاهد الغائب) (1). والوجه مثل ما مر، والظاهر شمول الغائب للمعدومين في ذلك الوقت - أيضا - ولو بقرينة المقام.
الرابع عشر: الصحيح: (أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة: أن يصلوا (2) الرحم) (3). وجه الدلالة: أن هذا كاشف عن عموم التكاليف، فلا وجه للقول بأن هذا خرج بالنص.
ونحو ذلك ما دل على العموم في الوقائع الخاصة.
الخامس عشر: مفهوم ما دل على الاختصاص في بعض المقامات، كقوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك (4) والنصوص في أن الرجل يفعل كذلك والمرأة تفعل كذا، فإنها دالة على أن غير ما نص فيه على الاختصاص شامل للكل.
وهذه القاعدة لا يخفى كثرة فروعها، بل قل ما تخلو مسألة في الفقه من الحاجة إليها، فلا يحتاج إلى ذكر الثمرات في المقامات.
وهنا تنبيهات:
أحدها: أن ميزان الاشتراك كما علم من الأدلة اتحاد العنوان المأخوذ في الحكم، ونصت عليه رواية أبي عمرو الزبيري المتقدمة (5) فكل من ثبت له حكم بعنوان خاص يثبت في غيره كذلك، ولا يتسرى من وصف إلى وصف، ومن مفهوم إلى آخر، وهو المراد باعتبارهم اتحاد الصنف في ذلك في الأصول، وقول الفقهاء:
إن الأحكام تتبع العناوين. نعم، لو شك في مدخلية شئ وعدمه فالمرجع القاعدة، ولنذكر لذلك مثالا
صفحه ۲۷
للتوضيح: فلو ورد في رواية: أن رجلا نسي الركوع، قال: يعيد فالعنوان هنا (نسيان الركوع) لا الرجل، ولا المركب منهما، لأن اعتبار الأول ظاهر، والأخيران مشكوكان يرجع فيهما إلى القاعدة من عدم الاعتبار.
وثانيها: أن مورد القاعدة إلحاق مكلف بمكلف آخر في تكليفه، لا في سائر أحكامه، فلا يجري في الموارد المشكوكة من أن دية المرأة كالرجل، أولا، وأن الرجل إذا مات يغسل كذا ويكفن كذا، فتكون المرأة كذلك، إذ الأول لازم للجاني، والثاني تكليف للأحياء، وكذا في حكم بول الرجل والمرأة في البئر، أو موتهما فيه (1). ونظائر ذلك في الفقه كثيرة.
وثالثها: أن فقهاءنا قد يمنعون إجراء حكم صدر في واقعة في غيرها، ويقولون: إنه قضية في واقعة.
وتحقيق القول فيه: أن القضايا الواقعة في مقامات خاصة إن كانت عناوينها معلومة من لفظ المعصوم أو السائل الذي أجيب عنه فهو متبع، يطرد الحكم في مقاماتها كافة، لما مر من القاعدة، إلا إذا عارض ذلك دليل أقوى منه، فيؤول بأحد التأويلات - ومنها: احتمال الخصوصية في ذلك - وإن كان خلاف الظاهر، وأما بدونه فلا وجه لرده بأنه قضية في واقعة.
نعم، لو نقله ناقل شاهد الواقعة - كما في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام - فهناك محل البحث، يحتمل أن يقال: إنه يعم الجميع اتباعا للفظ الناقل وعنوانه الذي عبر به، لأصالة عدم مدخلية شئ آخر في ذلك.
ويحتمل القول بالمنع، لأن الناقل لا يتمكن غالبا من الالتفات إلى كل ما له مدخل في ذلك الحكم، فيتخيل عدم مدخلية شئ سوى ما ذكره.
والذي أراه الوجه الأول ما لم يعارضه معارض أقوى، لأن الثقة لا يعلق الحكم على موضوع إلا مع فهمه كونه المناط في ذلك، ولا يجوز له التعبير بالأعم
صفحه ۲۸
إذا احتمل إرادة الخصوصية، فينحل في الحقيقة إلى الأخبار بنوع الواقعة وحكمها، وخبر الثقة حجة في ذلك.
ولعل قولهم: (إنه قضية في واقعة) إنما هو مع قوة المعارض، كما يشهد به تتبع كتب الفاضل العلامة - أعلى الله مقامه - وشيخنا الشهيد قدس روحه السعيد - وإلا فقد نراهم يتمسكون بالوقائع الخاصة، لعموم الحكم في الحدود والتعزيرات كثيرا، وفي غيرها كذلك. واحتمال فهمهم من ذلك عدم الخصوصية بعيد جدا.
ورابعها: أن هذه القاعدة قد انخرمت في مواضع: كبطن اليد والظهر في الوضوء للرجل والمرأة، والجهر والاخفات في الصلاة، وكيفيات قيامها وقعودها، وما يجب سترها فيها، وجواز لبس الحرير والذهب لها دونه، وجواز لبس المخيط في الأحرام كذلك، ووجوب التستر عليها دونه، وعدم الجهاد عليها، وقبول توبتها إذا ارتدت عن الفطرة، وعدم الجز والتغريب عليها، وعدم جواز إمامتها للرجال، وعدم رجحان خروجها إلى المسجد، وعدم وجوب الجمعة عليها، وتحريم لبس ما يستر ظهر القدم والتظليل في الأحرام له دونها، وإفاضتها من المشعر قبل الفجر، وفي خصائص النبي صلى الله عليه وآله وفي تحيض القرشي والنبطي في وجه.
صفحه ۲۹
(العنوان الثاني) (في حكم المكلف الخارج عن العادة)
صفحه ۳۱
عنوان [2] في حكم المكلف الخارج عن العادة المشتبه بكله أو بعضه، كمن فيه عضو زائد أو ناقص، والخنثى، وذي الحقوين. فهنا مباحث:
الأول: في مسألة الأعضاء فنقول: قد تعلق الحكم في الشرع بالأعضاء في باب الوضوء والغسل وأسبابهما، وفي التيمم كذلك، وفي سجدة الصلاة، وإشارة الأخرس، وثدي الرضاع، والختان، وفي الجنايات، وفي الحدود، وغير ذلك من المباحث.
والضابطة في ذلك أن يقال: لما كانت الأدلة تنصرف إلى المتعارف المعتاد، فالعضو الزائد: إما أن يتعلق الحكم به من حيث اسمه، أو من حيث دخوله في ضمن الكل.
أما إذا كان الثاني: فلا فرق بين الزائد والأصلي في تعلق الحكم، والوجه في ذلك: أن الاسم لما لم يكن معتبرا فلا وجه لخروج الزائد عن تحت الدليل.
فإن قيل: لو لم يعتبر الاسم في الخاص، فلابد من اعتباره في الكل الذي دخل
صفحه ۳۲
تحته ذلك الزائد، ولا ريب في انصراف لفظ (الكل) أيضا إلى الغالب المتعارف، وهو ما لم يكن فيه ذلك الزائد.
قلت: هذا لا ينفع في شئ، لأنه مستلزم لسقوط التكليف عن الكل إذا كان كذلك، لأنه فرد نادر، وحينئذ لا بأس فيه، وكلامنا في حكم العضو الزائد بعد تعلق التكليف قطعا، إذ لا بد بعد ثبوت الحكم على هذا الكل الخاص دخول الجزء أيضا تحته.
قيل: يمكن أن يقال بخروج الجزء عن تحت الحكم وإن ثبت في الكل بدعوى انصراف لفظ (الكل) إلى غير الجزء الزائد.
قلنا أولا: إن هذا اعتبار، والمدار العرف، وهو على خلاف ما ذكرت، لأنهم بعد ما علموا ثبوت الحكم على هذا المركب الخاص يدخلون الجزء معه.
وثانيا: أن هذا تفكيك غير ممكن غالبا، لأن الحكم إن كان إتلافا فإتلاف الكل مستلزم للجزء، وإن كان مثل الغسل والمسح ونحو ذلك، فنقول:
إن محل العضو الزائد بمعنى السطح المشغول به يجب غسله - مثلا - لو لم يكن هنا هذه الزيادة، والمفروض تعلق الحكم بالكل الأصلي قطعا، فلو خلينا مكانه غير مغسول - مثلا - لزم عدم الامتثال.
قيل: عدم إمكان إيصال الماء - مثلا - تحته دلنا على سقوط هذا التكليف عنه.
قلت: لم لا يكون الأمر به - مع علم الامر بأنه مشغول بشئ لا يمكن رفعه - دليلا على قيام الشاغل مقام محله؟ وأحد الأمرين ليس بأولى من الاخر.
ومن هنا نقول: يجب في الغسل غسل جميع البدن ولو كان فيه عضو زائد في أي موضع كان.
ونقول بلزوم الغسل في الوضوء أيضا لو كانت الزيادة داخلة في الأعضاء المتعلق بها الحكم، كالأصبع في اليد أو اللحمة فيها أو في الوجه ونحو ذلك، ومثله في مسح التيمم. ومن هنا ينقدح صحة مسح الرجل أو الرأس في الوضوء بالأصبع
صفحه ۳۳
الزائدة لدخولها تحت اليد، ونحوه اللحم الزائد.
ونقول بقتل النفس بالنفس، وقطع الطرف بالطرف وإن كان في أحدهما زيادة عن الاخر، وكذا في قطع يد السارق أو رجله، إلا مع إمكان إبقاء الزائد في القصاص، كيد السارق. والضابط ما ذكرناه.
وإن كان الأول (1): فإما أن يعلم الأصلي من الزائد بأماراته: من صغر أو اعوجاج أو تغير أو ضعف أو عدم خروج الأخبثين في المخرجين ونحو ذلك، أولا.
وعلى الأول: فالحكم يدور مدار الأصلي، لأنه المتبادر، فلا يجب غسل ما نبت فوق المرفق من يد زائدة، ولا يجزي المسح به حيث يجب، ولا يقتص الزائد بالأصلي ولا العكس، ولا يثبت في الزائد دية الأصلي، بل يرجع فيه إلى القاعدة أو النص، ولا يكفي قطع الزائد في الحدود، ولا تتحقق الجنابة بإدخال الزائد في الزائد أو في الأصلي أو بالعكس ، ولا خروج المني أو أحد الدماء من الزائد، وكذا في الأحداث الصغار ما لم تتحقق العادة، وإلا فيتحقق الحدث بالخروج لشمول أدلته. وكما لا تثبت الجنابة لا يتحقق الزنا واللواط الموجبان للحد و (2) انتشار التحريم أيضا، لعدم شمول أدلتهما، ولا يثبت بإدخال الزائد المهر، ولا يكفي وضع الزائد في السجود ولا يجب وضعه، ولا ينشر الحرمة الرضاع من ثدي زائد بناءا على تعلق الحكم بالثدي، ولا يجب الختان بالزائد ولا يكفي عن الأصلي، وكذا الحكم في تعلق نذر وشبهه بأحد الأعضاء على الإطلاق.
وعلى ذلك جرت (3) فقهاؤنا في الفروع المشار إليها، فعليك بالتتبع في المقام مع التأمل التام.
لا يقال: لو كان كذلك لما وجب ستر الفرج الزائد.
لأنا نقول: ذلك لأجل صدق العورة بمعنى ما يستقبح إبداؤه (4) لا لصدق
صفحه ۳۴
الاسم الخاص، كما يظهر بعد التدبر.
نعم، هنا كلام في قيام الزائد مقام الأصلي.
فنقول: قد أشرنا سابقا أن باب الأحداث بخروج البول والغائط والمني والدماء يتبع فيه العادة، فمتى ما تحقق كفت ولو مع وجود الأصلي، إذ المدار فيها صدق المصادر والأفعال، كقولك: بال أو حاضت، لا خصوص الأعضاء.
وأما في غيرها - مما مر عليك ذكر جملة منها - فنقول: مقتضى القاعدة سقوط الحكم بفوات محله الأصلي، فلا بد من الرجوع إلى ما جعل في الشرع بدلا عن ذلك لو كان، فمن قطع أحد أعضاء وضوئه أو تيممه وبقي مقامه عضو زائد غير داخل تحت الأصلي - كما هو محل البحث - فالمتجه سقوط الغسل والمسح عن (1) ذلك والإتيان بالبقية.
ودعوى: أن مع فقدان الأصلي يصدق الاسم على الزائد فيلحقه حكمه، ممنوعة. وشمول قاعدة (الميسور) على المقام (2) غير واضح كما يمر عليك في (3) تحقيقها وضبط مواردها - إن شاء الله -.
وأطلق الأصحاب عدم ترتب هذه الأحكام على الزائدة في موارد خاصة - كباب (4) القصاص والحدود - وهو شامل لصورتي عدم الأصلي، والوجود.
نعم، لهم (5) كلام في جواز القصاص بالناقصة - كاليد الشلاء وناقصة الأصبع - بدل الكامل، كما نص عليه الفاضلان (6) والشهيدان (7) ولكنهم لم ينصوا على قطع الزائد بالأصلية، بل ظاهر كلامهم ثبوت الدية لفوات المحل، وهذا منطبق على ما قررناه، لأن النقصان إن كان لفوات وصف أو جزء من الأصلي فيشمله دليل
صفحه ۳۵
القصاص، وأما الزائد فلا يشمله الإطلاق في مقام المقابلة.
ودعوى الأولوية ممنوعة، إلا مع اتحاد المحل بحيث لا تفاوت بينهما سوى كون الجاني زائدا على الخلقة، فإنه يقطع.
وفي الشرائع: لو كانت الأصبع التي ليست أصلية للجاني ثبت القصاص، لأن الناقص يؤخذ بالكامل، ولو اختلف محل الزائدة لم يتحقق القصاص (1).
وقال في السن: لا يقلع سن بضرس، ولا بالعكس، ولا أصلية بزائدة، وكذا لا تقلع زائدة بزائدة مع تغاير المحلين (2).
ولكن (3) في اللمعة: ولا أصلية بزائدة، ولا زائدة بزائدة مع تغاير المحل (4).
وظاهره قطع (5) الزائدة بالأصلية مطلقا.
وفي القواعد للعلامة - أعلى الله مقامه - في اليد والرجل: لا يقطع أصلية بزائدة مطلقا، ولا زائدة بأصلية مع تغاير المحل، ويقطع بمثلها وبالأصلية مع التساوي في المحل (6).
وفي الأسنان: ولا أصلية بزائدة، ولا بالعكس مع تغاير المحل (7).
والحاصل: إجراء حكم الأصلي على الزائد مخالف للقاعدة، محتاج إلى الدليل.
ولو اشتبه الزائد والأصلي:
ففي باب العبادات كافة يجب الإتيان بالأمرين في الغسل والمسح في الوضوء والتيمم، والسجدة، لوجوب مقدمة العلم وإمكان الامتثال بنفس الأمر.
ودعوى التخيير لأصالة البراءة، مدفوعة بما مر من ثبوت التكليف بالواقع في
صفحه ۳۶
الجملة، وإمكان الإتيان عرفا، فتجئ قاعدة الاشتغال.
وبذلك يندفع احتمال القرعة أيضا لما سنحقق في بحثها - إن شاء الله تعالى - أن المراد ب (المشكل) ما ليس له مخرج شرعي ولو بالأصل.
وأما في الأسباب: فالقاعدة تقضي بعدم تحقق المسبب، إلا مع اجتماعهما جامعين للشرائط حتى يحصل القطع بحصول السبب في نفس الأمر.
ودعوى: أن ذلك يكون من باب الشبهة المحصورة فيلزم الاجتناب، مدفوعة بأن الشبهة فرع تحقق محظور في الواقع متيقن، وهنا ليس كذلك، فإن الجماع بآلة مشتبهة أو الرضاع من ثدي مشتبه لا يعلم معه تحقق السبب للغسل، أو الحد، أو التحريم، ونحو ذلك مما (1) أسلفنا لك.
وأما في الحدود: فيقطع أحدهما بالقرعة، لأنه مشكل، وإن توقف فيه البعض (2).
وأما في القصاص: فإن كان المقتص به أصليا قطع ما يوافق محله، لأنه في الواقع إما أصلي أو زائد، وكلاهما لا بأس بهما (3).
وفي القواعد: فيه إشكال، لعدم جواز قطع الزائد مع وجود الأصلي (4).
ولا يقطع ما لا يوافق، والوجه واضح.
ولو كان زائدا فلا يقتص، لاحتمال مصادفة الأصلية، وللقرعة هنا وجه قوي على ما نقرره في محله.
ولو كان مشتبها - كالجاني - ففي جواز القصاص للمماثلة، وعدمه لاحتمال الزيادة في المجني عليه دون الجاني، أو استعلام المجني بالقرعة ثم الجاني كذلك وجوه.
وليس في كتب الأساطين في ذلك شئ منقح، والقرعة أوفق بالقاعدة،،
صفحه ۳۷
والبحث يجري في سائر الحيوانات، كورك العقيقة وما يحرم من أعضاء الذبيحة.
الثاني: في الخنثى، وهو الذي له فرج الرجال والنساء والممسوح، وهو الذي ليس له شئ منهما وهل هما طبيعة ثالثة غير الذكر والأنثى، أو داخلان في الواقع تحت أحدهما، أو الخنثى طبيعة ثالثة دون الاخر؟ وجوه، بل أقوال:
ويدل على الأول (1):
قوله تعالى: خلق الزوجين الذكر والأنثى (2) وقوله تعالى: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (3) ونحو ذلك، لظهور ذلك كله في انحصار الحيوان في الذكور والإناث.
ولقضاء علي عليه السلام في الخنثى بعد الأضلاع، معللا بأن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر (4)، فإنه لا بد من تساوي الأضلاع أو نقصان الأيسر، وذلك كاشف عن الانحصار.
وصحيحة الفضيل بن يسار، عن الصادق عليه السلام في فاقد الفرجين - في باب الميراث - أنه يورث بالقرعة (5)، لدلالة ذلك على تعينه في الواقع لأحد الأمرين، ولو كان طبيعة ثالثة لكان ينبغي عدم القرعة، أو جعل السهام ثلاثة، لا اثنين.
صفحه ۳۸