بدأ القرن الماضي - إذن - بهاتين الرؤيتين لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا إزاء الغرب، فكان هذا الازدواج في الرأي، بمثابة القضية الأولى والأساسية في حياتنا الثقافية كلها، فمنذ ذلك اليوم وحتى هذه الساعة، ليست هي بالقضية التي يمكن للكاتب - أي كاتب وكل كاتب - أن يتجاهلها؛ لأنه حتى لو تعمد ذلك التجاهل لما استطاع؛ إذ هو مضطر أن يختار مادة قراءته، ودراسته، وكتابته، من الينابيع والمصدر التي يستمد منها التأييد والقوة في وجهة نظره، سواء أكانت هي وجهة النظر عند الرافضين للغرب أم كانت وجهة النظر عند القابلين، فإذا سئلنا: ما قضيتكم التي تشغل مفكريكم وأدباءكم؟ أفيكون شططا منا أن نجيب بأنها هي موقفنا من الغرب الجديد، وهي قضية بدأت معنا منذ تحدي ذلك الشيخ العلماء الفرنسيين بقوة علمه الروحاني بالقياس إلى علومهم الجديدة، متبوعا ذلك الموقف بموقف مضاد وقفه الطهطاوي بوجوب قبول الغرب ثم المزاوجة بينه وبين موروثنا. نعم، هي قضية بدأت معنا منذ ذلك الوقت البعيد، وما زالت إلى اليوم قائمة من حياتنا الفكرية والأدبية في صميم الصميم.
لكن تلك القضية، التي عددناها جدة كبرى، سرعان ما ولدت ابنة لها، فكانت تلك الابنة هي مشكلة «الحرية»، وإذا شئت فانظر إلى مشكلة الحرية هذه، على أنها قضية قائمة بذاتها، بحيث إذا سألنا الشاعر الروسي مرة أخرى ما قضيتكم؟ أجبناه: إنها الحرية وكيف نحققها كاملة لشعبنا، فذلك أصوب من أن أفزع لظني بأنه لا قضية عندي تملأ بحرارتها ساحة الفكر والأدب.
ولماذا جعلنا قضية «الحرية» في حياتنا وليدة القضية الجذرية الأولى، التي هي تساؤلنا عن موقفنا من الغرب الجديد كيف يكون؟ إننا فعلنا ذلك لأن قضية «الحرية» ثارت أول ما ثارت - من الناحية الفكرية - عند الطهطاوي، إثر عودته من باريس، وتأثره بما رآه هناك من حريات لم يكن عرفها في مصر لا قبل أن يسافر منها إلى باريس، ولا عقب عودته إليها، فكانت النتيجة اللازمة عن وجهة نظره بضرورة قبولنا للغرب الجديد هي أن يبشر بضرورة أخذنا بشيء من الحرية كما رأى القوم هناك يحيونها، ومنذ بدأ الطهطاوي دعوته إلى الحرية أخذت تلك الدعوة تتردد على أقلام الكتاب، لكن الذي يلفت النظر، ويستدعي هنا أن نلتفت إليه، هو أن مفهوم «الحرية» أخذ يزداد غزارة ويتسع رفعة جيلا بعد جيل من أجيال المفكرين والأدباء، على أنه إذا كان الموقف من الغرب قد كان الشرارة التي أشعلت الرغبة في الحرية عند من وقفوا من حضارة الغرب موقف القبول؛ فإن موقف الرافضين - بدوره - قد أدى بهم إلى أن يفهموا الحرية المنشودة على أنها «تحرر» من ربقة المستعمرين الذين جاءوا إلينا من ذلك الغرب.
نقول إن مفهوم الحرية قد أخذ يتسع ويعمق معنا على تتابع المراحل الزمنية، التي كانت في الوقت نفسه هي المراحل السياسية كذلك، فكانت كل مرحلة منها تتمسك بما كسبته المرحلة السابقة، ثم تضيف إليها طموحا نحو مزيد تسعى إلى تحقيقه، بحيث لو أردنا الآن أن نرسم تخطيطا يصور الأطوار التي اجتزناها في طريقنا إلى الحرية - أو قل إلى الحريات المنوعة الكثيرة - جاء الرسم شبيها بالعمارة الإسلامية، التي كان كل طابق علوي من البناء فيها، يوسع من رقعته عن الطابق الذي تحته.
كان رفاعة الطهطاوي هو أول بذر لبذور الحرية في تاريخنا الحديث، ففيه التقى الشرق والغرب على نحو صحي مقبول، ولعله كان هو صورة الالتقاء التي أقامت لنا نموذج الهدف الثقافي الذي نتغياه، فمن الكتب المدرسية للطهطاوي كتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وقد أورد فيه فصلا بعنوان «في الحرية العمومية والتسوية بين أهالي الجمعية»، يقسم فيه الحرية خمسة أقسام، أولها قسم للحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان في ضرورات حياته، كالأكل والمشي وما إلى ذلك، والقسم الثاني هو ما أسماه بالحرية السلوكية وهي التي يتمتع بها الإنسان داخل إطار الأخلاق، والقسم الثالث هو الحرية الدينية، وهي التي تكفل للإنسان حرية العقيدة والرأي والمذهب، بما لا يتعارض مع الدين، والقسم الرابع هو الحرية المدنية في التعامل مع الناس في حدود ما قد جرى به العرف، وأما القسم الخامس فهو الحرية السياسية التي هي ضمان الحريات الأربع السابق ذكرها؛ إذ إنها تتعلق بواجب الدولة في أن تصون لكل فرد من مواطنيها أن يتمتع بتلك الحريات الأربع.
ولا بد لنا من أن نلحظ بوعي مستيقظ لهذا الذي قاله الطهطاوي عن الحريات، فنلحظ - أولا - أنه منذ العنوان قد قرن الحرية بالمساواة، إذ لا تتحقق إحداهما إلا بالأخرى، وأن نلحظ - ثانيا - أنه عند ذكره الحرية السياسية لم يذكر كلمة عن وجوب مشاركة الشعب في حكم نفسه، فكأنه يكتفي بأن تكفل الدولة للمواطنين أن يتمتعوا بحرياتهم الأخرى. أما ممن تتكون الدولة وكيف تتكون فليس من شأن الشعب أن يكون له رأي فيه، ومعنى ذلك هو أن الولاء للحكم أمر مفترض ومفروض، ثم تجيء الحريات داخل هذا الإطار.
فلما ذهب جيل الطهطاوي ونضج الجيل الذي تلاه مغتذيا بغذائه اتسعت الحرية السياسية التي أخذ الرواد يطالبون بها عندئذ، فبدل التسليم بالولاء للحكم أيا كانت هويته، اكتفاء بأن يصون ذلك الحكم للناس حرياتهم الطبيعية والمدنية والدينية والسلوكية، نودي بمبدأ أن يكون الولاء للشعب، ولقد تمخضت تلك الحركة عن ثورة عرابي، فكانت أول من رفع الشعار القائل بأن مصر للمصريين، ولكنه شعار لم يكن يعني عند المنادين به إذ ذاك أكثر من أن يكون للمصريين حق في بلادهم، دون أن ينفي بذلك تمتع غير المصريين معهم - بل ربما قبلهم - بذلك الحق نفسه، أي إن مبدأ أن تكون مصر للمصريين عند أول المطالبة به لم يكن يتسع ليكون معناه: مصر للمصريين ولا أحد غير المصريين.
وانتهت الثورة العرابية بالاحتلال البريطاني، فاشتدت حرارة المطالبة بالحريات، حتى لقد تفرعت القيادات بتعدد الحريات وتنوعها، فهناك الشيخ محمد عبده وقد شغله تحرير العقيدة الإسلامية مما دخل فيها من خرافات بسبب الجهل السائد، وهناك قاسم أمين وقد انصرف إلى تحرير نصف الأمة - وهو المرأة - ليحررها من قيود اصطنعت لها من غير موجب يفرضه الدين، ومن غير داع يدعو إليه تقدم المجتمع وارتقاؤه، وهناك مصطفى كامل يوجه اهتمامه إلى التحرر السياسي أولا من المحتل، وهناك أحمد لطفي السيد ينادي بحريات الأفراد داخل مجتمع حر، إذ قد يتخلص المجتمع من المستعمر، ويظل الأفراد داخل وطنهم محرومين من حرياتهم، فأعلن أحمد لطفي السيد ألا يكون للحكومة سلطان إلا على ما ولتها الضرورة إياه، وهو ثلاث ولايات هي: ولاية البوليس، وولاية القضاء، وولاية الدفاع عن الوطن، وأما ما عدا ذلك من المرافق والمنافع، فالولاية فيها تكون للأفراد والهيئات الحرة ، وهنا أود للقارئ أن يتنبه إلى أن ذلك الذي دعا إليه أحمد لطفي السيد إنما هو جوهر المذهب السياسي الذي كان يطلق عليه اسم «الليبرالية»، ومن أهم أهدافه أن يكون للأفراد أكبر قدر ممكن من الحريات على اختلاف أنواعها، ومن تفريعاته المهمة تشديده على أن تكون السيادة للقانون لا للأشخاص، وأن الحاكم إنما يحكم بإرادة الشعب لصالح الجمهور كله، لا لصالح فئة معينة، أو لصالح فرد بذاته، وها هنا كانت دعوة أحمد لطفي السيد بأن تكون مصر للمصريين بمعناها الأوسع والأدق مما كان عليه حين رفع شعارها في الثورة العرابية، فأصبحت تتضمن ألا يكون لغير المصريين حق في مصر، وبالتالي فلا ولاية للأتراك ولا حقوق للجراكسة وغيرهم من الأجانب، وخلاصة الموقف الجديد بالنسبة إلى مفهوم الحرية هي أنه لن تكون للوطن حرية إلا إذا تحققت الحرية للمواطنين، ثم لا تتحقق الحرية للمواطن بأي معنى من معانيها، إلا إذا كفلتها حرية سياسية، ولن يكون للحرية السياسية معنى، إلا إذا اشترك كل فرد راشد في حكومة بلاده اشتراكا تاما وكاملا، وبهذا وحده تكون السلطة للشعب، لكن تلك الأهداف السياسية العليا تتطلب بادئ ذي بدء أن يتغير التعليم في طبيعته وأهدافه، فبدل أن يقام لإعداد موظفين يعملون في الحكومة ولها، يصبح الهدف من التعليم تنمية الحرية الفكرية عند الأفراد، وكلمة الأفراد هذه تشمل الإناث كما تشمل الذكور، ومن ثم وجب تأييد الدعوة التي كان قبل ذلك دعا إليها قاسم أمين بوجوب أن تتحرر المرأة من قيودها، إلا أن قاسم أمين وقف من ذلك التحرر عند «الحجاب» بمعناه المادي، أي حجاب الوجه، فاتسعت الدعوة عند أحمد لطفي السيد لتكون دعوة إلى رفع حجاب العقل والفكر كذلك، ومما يجدر ذكره هنا أنه حين صدرت مجلة «السفور» في العقد الثاني من هذا القرن، كان المقصود بالسفور هنا هو سفور العقل وحرية تعبيره عن نفسه، وكأنما سفور الوجه كان قد أصبح عندئذ قضية مفروغا منها، وهذه الجوانب كلها توضح لنا ما كان أعلنه أحمد لطفي السيد دستورا للجامعة عند إنشائها، وهو: «حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، لا الحفظ والتصديق لكل ما يقال.»
بهذه الخطوات المتلاحقة عند الرواد في دعوتهم إلى الحرية، لم يقتصر الأمر على مجرد التوسع في معناها على صورة أفقية، بمعنى أن تزداد أنواعها عددا فحسب، بل اتسع أيضا على صورة رأسية، بمعنى أن يكون الفرد حرا من الباطن، كما هو حر من الظاهر، ومعنى الحرية من الباطن أن يكون كل فرد قادرا على التفكير الناضج، حرا في فكره، وحرا في التعبير عن ذلك الفكر.
وثارت مصر ثورتها سنة 1919م، عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة، لتطالب بحريتها السياسية، لكن تلك الحرية السياسية المطلوبة على المستوى الرسمي سرعان ما لحقت بها دعوات مختلفة لحريات متنوعة تشمل مسالك الحياة جميعا، كما نرى فيما أنتجه رجال الفكر والأدب والفن والاقتصاد وغير ذلك من أوجه الحياة الشاملة، كان ذلك خلال العشرينيات والثلاثينيات، ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، وأعقبت ما أعقبته من نتائج.
صفحه نامشخص