استمع إلي بكل انتباهك يا ولدي؛ لأنني سأشرح لك نقطتين متصلتين بمنهج التفكير العلمي، وهما نقطتان على شيء من الدقة، فإذا لم تركز انتباهك فقد تفلتان منك فتزل في الخطأ كما يزل آخرون، ولهاتين النقطتين أهمية خاصة إذا ما كان الموضوع المطروح متصلا بالحفظ الأصم لطائفة من المبادئ والقواعد والجمل والألفاظ، ثم يراد لها أن تكون هي الموجهات لحياة الناس في شئونهم العملية الجارية مع جريان الزمن.
أما النقطة الأولى فهي أن الخطورة فيمن «يحفظ» تركيبا لغويا معينا ويريد له أن يكون هو المرجع للفكر أو السلوك هي أنه قد ينسى أن ذلك التركيب اللغوي المحفوظ ربما كان خاطئا في ذاته، فإذا استخرجنا منه نتيجة ما، كانت بدورها - في هذه الحالة - نتيجة خاطئة، لكننا بما في طبيعتنا البشرية من نقص وضعف إذا ما ارتبطت حياة أحدنا بمحفوظات حفظها وكررها مرة بعد مرة توهم - دون أن يدري - أنه إنما يحفظ ما هو صواب، فإذا طالبته بإقامة الدليل العلمي على صواب معرفته، تشنج وأخذه الغيظ، وهي حالة يعرفها المحللون النفسيون في مرضاهم، والذي أريد أن أقوله لك - ولسائر الشباب معك - إنه محتوم علينا بحكم العقل الذي تميزنا به دون سائر الكائنات بأن نتثبت بكل طريقة علمية ممكنة من صدق ما كنا حفظناه إذا نحن أردنا أن نجعل منه قواعد نحتكم إليها في التفرقة بين الصواب والخطأ، وأحسبك يا ولدي مدركا بذكائك الفطري أنه إذا ما اختلف «الحفاظ» في مسألة معينة؛ فذلك الاختلاف وحده دليل على أن محفوظاتهم تحتاج إلى مراجعة نحتكم فيها إلى منطق العقل.
وأما النقطة المنهجية الثانية التي أردت تقديمها - ولعلها أصعب إدراكا من الأولى - فهي أن من كانت بضاعته محفوظات لغوية كان بمثابة من بعد عن دنيا الواقع بخطوتين؛ ولذلك لم يكن من حقه أن يحكم على أمر من أمور الحياة الواقعية إلا إذا قطع تينك الخطوتين راجعا من عالم محفوظاته إلى عالم الأشياء. ولماذا هما خطوتان؟ هاك شرح ذلك: إن مفردات اللغة وتراكيبها إذ هي تشير إلى الأشياء والمواقف الفعلية، فهي لا تؤدي ذلك على مستوى واحد بالنسبة إلى جميع الحالات، بل هي في بعض الحالات تمس الواقع مسا مباشرا، وفي بعضها الآخر تبعد عن ذلك الواقع بخطوة أو خطوتين، أو أي عدد من الخطوات، وذلك متوقف على درجة التجريد والتعميم التي يتحدث بها من يتحدث، خذ - مثلا - هذه الدرجات الثلاث: مريض، مريض بالحمى، جاري فلان مريض بالحمى، فواضح أن الجملة الثالثة تتصل بحالة معينة واقعة اتصالا مباشرا، وأما الثانية والأولى فتشيران إلى «تصورات» ذهنية، لا إلى حالات معينة وقعت بالفعل، بعبارة أخرى قد تكون أوضح، إن من يقول كلمة «مريض» أو يقول عبارة «مريض بالحمى» يكون مفهوما لسامعيه، دون أن يكون هنالك بالضرورة مرض قائم بالفعل، وأما من يقول: جاري فلان مريض بالحمى، فهو أيضا يكون مفهوما لسامعيه، لكنه فوق ذلك يجعلنا على علم بشيء حدث بالفعل.
وبناء على هذا الذي قدمناه يمكن القول بأن اللغة تامة الأداء لوظيفتها الأساسية حين تدلنا على ما هو واقع بالفعل، وتكون ناقصة الأداء حين تشير إلى تصورات ذهنية، نفهم ما تعنيه، لكننا لا نضمن بها أن يكون هنالك في دنيا الواقع ما يقابلها، وهنا نستطيع العودة بحديثنا إلى «الحفاظ»؛ فبالبداهة هم لا يحفظون عبارات مأخوذة أخذا مباشرا مما هو واقع حولنا، وذلك لأنهم يحفظون أشياء استخرجوها من كتب، والكتب كتبها أصحابها في عصور مضت، فهي على أحسن الفروض إذا كانت صادقة فصدقها كان مرهونا بما قد كان واقعا في زمانها، وهي بعد ذلك إما أن يكون صدقها ممتدا ليشمل وقائع حياتنا الحاضرة، وإما أن يكون صدقها قد اقتصر على زمانها، ومعنى هذا هو أن حفاظ التراث عليهم في كل حالة على حدة أن يثبتوا أن ما قد حفظوه من الكتب عن أشباه تلك الحالة يمتد بصدقه إلى حالة عصرنا ليشملها.
ربما ظننت يا ولدي أنني قد بعدت بك بعدا شديدا عما بدأنا به، فلقد كنت بادئ ذي بدء أضمر في نفسي أن أحدثك عن حرية العقل، ثم جاء رسمك الذي صورت به إنسانا قوامه كله حروف الأبجدية فرأيت أنا في رسمك رمية صائبة - أردتها أم لم تردها - فذلك سيان، وهي رمية صائبة؛ لأن الرسم على بساطته يصور لي جانبا هاما من حياتنا الراهنة؛ إذ هي حياة يراد لها أن تلقي بزمامها إلى من لا يملكون إلا حافظة وما تخزنه من أقوال محفوظة، وفي ذلك خطورة خطيرة تستحق منا وقفات متدبرة متأنية، وليس يعيبنا أن نهتدي بحكمة التاريخ، حتى ولو كان تاريخا يؤرخ لأمم غير أمتنا، وها هي أوروبا وما كانت عليه قبل نهضتها نستطيع أن نراها بكل وضوح فيما رواه المؤرخون وفيما صوره الأدباء، كانت أوروبا تجتاز عندئذ مرحلة تتحكم فيها «المحفوظات» قبل أن تتحكم فيها «الأشياء» الواقعة والمواقف الحادثة بالفعل، والمحفوظات بطبيعتها تختزن الماضي، وقد تصلح أو لا تصلح لما هو حادث، فجاءت قصة «دون كيخوته» إلى الناس في تلك المرحلة، فكتب لها منذ الساعة الأولى أن تكون آية من آيات الأدب العالمي كله، لماذا؟ وماذا تحكي تلك القصة؟ إنها بكل بساطة جعلت إنسانا، هو «دون كيخوته»، يحفظ من الكتب كل شيء عن الفروسية والفرسان - وكان عهد الفروسية والفرسان قد انقضى - لكنه أعجب بما قرأه إعجابا ملك عليه كل زمامه، وصمم أن يحيا حياته على نحو ما عاش الفرسان، وإذا بالمسكين يصبح أضحوكة الناس، لكنهم في الحق كانوا يشفقون عليه لبراءته بمثل ما كانوا يضحكون منه لسذاجته، ولقد أصبحت القصة منذ ظهورها أروع مثل يساق لمن حفظ عن الماضي شيئا وأراد أن يطبقه على حاضره، بغض النظر عما قد تغير بفعل الزمن.
هي يا ولدي خطورة خطيرة على أمة من الأمم، أن تلف عقولها في أغشية من «محفوظات» يعيد الناس بها كلمات وعبارات تركها السلف؛ فيحيون حياتهم في «قال» و«قيل». وموضع الخطورة هو أنهم سرعان ما يجدون أنفسهم قد انفصلوا عن عالم الأشياء والوقائع والمواقف والأحداث، فيفاجئهم الحادث الضخم وهم عنه غافلون، وذلك هو ما حدث لنا - وأعني مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي - مرة ومرة وثالثة ورابعة، ولعله آخرها كان هو أن صحونا على شيء اسمه إسرائيل قد انغرس في الجسم العربي ونما وانتشر وازداد قوة ونحن ما زلنا نلف أنفسنا في أغطية القال والقيل، وإنها لأغطية تشبه في تأثيرها فعل الأشرطة العازلة للكهرباء تلف بها الأسلاك المكهربة فتصبح بردا وسلامة على لامسيها.
قال الفتى: لقد تابعتك كلمة كلمة، وفهمت عنك ما أردته أحسن الفهم، لكنني أود أن أعلم منك كيف - إذن - تكون الصلة بيننا وبين أسلافنا إذا كان حفظنا لتراثهم لا يرضيك؟
قلت: حاشا لله يا بني ألا يرضيني تراث آبائي وأجدادي، وهو يجري في كياني مجرى الدماء في العروق، لكن المسألة هي في «كيف» أقف من ذلك التراث؟ وجوابي هو أن الأمر فيه يشبه الأمر في أرض زراعية ورثتها عن أبيك، فماذا أنت صانع بها؟ إنك لا تطويها لتخزنها في رأسك لتسير معك حيث تسير، بل تزرعها لتستثمرها، فالتراث الذي ورثناه لا ينبغي أن يكون في حياتنا كالحبائل التي يقع فيها الصيد فلا يستطيع لنفسه فكاكا حتى يمسك به صياده، بل ينبغي أن نجعل منه أول الطريق نستثمره على النحو الذي نراه نافعا لنا، فمثلا قد وجدنا في تراثنا مبدأ يوصي بأن يكون أمرنا شورى بيننا؛ فعلينا أن نبدأ من هنا ونسأل كيف نجعل هذه الشورى لتلائم ظروف عصرنا؟ فإذا اخترنا أن يكون ذلك بمجلس لنواب الشعب المختارين، فقد يجيء سؤال بعد ذلك عن أفضل طريقة نجري بها عملية الاختيار، وهكذا، فها هنا ترانا قد بدأنا من التراث ثم مضينا في طريقنا نحن الذي يلائم حياتنا في عصرنا، لكن قارن ذلك بما كنا قد قرأناه منذ فترة ليست بعيدة لرجل فاضل ممن يحيون التراث «محفوظات» صماء؛ إذ قال إن علينا أن نتبع أسلافنا في أننا ما دمنا قد اخترنا الحاكم، فقد انتهى دورنا في الشورى، وللحاكم بعد ذلك أن يفعل ما يشاء فلا رقيب عليه ولا حسيب.
وقل شيئا كهذا في «العلم» ومكانته من حياتنا، فنبدأ بتراثنا فيما أوصى به من وجوب العلم ووجوب استرشادنا، لكننا من نقطة البدء هذه ننطلق فيما يلائم عصرنا، فأي «علم» يكون؟ العلم بماذا؟ كان أسلافنا يوجهون الطاقة العلمية - أو معظمها - نحو دراسات كانت في يومهم هي ذات الأولوية الأولى، وكان معظمها منصبا على الجانب اللغوي من الفكر، ولا أعني فقط دراسة اللغة من حيث هي لغة، بل أعني أن موضوعات البحث كانت صيغا لغوية على كل حال، وأما اليوم فبالإضافة إلى تلك الدراسات التي لا بد منها لكل عصر فتحت أمام الإنسان صفحة جديدة، أو هي كالجديدة، بل وأصبح لها الأولوية الأولى، وأعني بها صفحة الكون وظواهره، فوجبت دراسته بالعلوم التي تصلح لدراسته.
لقد كنت من أشد الناس فرحة بجامعة الأزهر في صورتها الجديدة، وكتبت لأعبر عن فرحتي تلك مقالة جعلت عنوانها: «الثورة الرابعة» اعتبارا مني بأن مصر كانت قبل ذلك قد حققت ثلاث ثورات، هي الثورة السياسية التي خلصتنا من الاحتلال البريطاني، وأعطت المواطنين شيئا من حقوقهم السياسية، والثورة الاجتماعية التي رفعت من مكانة الفلاح والعامل، فجعلتهما مساوية لأي جماعة أخرى من أبناء الوطن في القدر وفي الحقوق؛ علما بأن تلك الفئة التي كانت مغلوبة على أمرها تبلغ أكثر من أربعة أخماس السكان، والثورة الثالثة هي الثورة الاقتصادية التي غيرت ما غيرته من الملكية الزراعية، ثم ضاعفت قطاع الصناعة الثقيلة منها والخفيفة أضعافا عدة، وها هي تلك الثورة الرابعة في مجال التعليم والعلم، وأعني تطوير جامعة الأزهر لتصبح جامعة كسائر جامعات الدنيا. إن وقفت وقفة مع تاريخ الفكر وتاريخ العلم؛ فيجب أن تقف وقفات مع الفكر والعلم كما يعرفهما العصر الذي نعيش فيه، فليس شأني يا بني هو رفض تراثنا - أستغفر الله - وها هي ذي كتبي في هذا الميدان شاهدة على ذلك.
صفحه نامشخص