فالكلام يا سيدي الموظف القارئ أبدا ليس أي كلام.
وليس كل الكلام مثل كل الكلام. هناك دائما أبدا ما أسميه أنا: الكلمة- الفعل، أي الكلمة التي ليست بديلا عن الفعل وليست مجرد تفاصح وإظهار للقدرة على القراءة والكتابة، ولكنها الكلمة التي تصدر عن قلب عاناها ويعانيها ويحياها وتحياه بحيث إنه فعلا ومن الممكن أن يموت في سبيلها. الكلمة الصدق، الكلمة الصدق الفعل، الكلمة التي تغير لأنها تصدر عن متغير، لأنها تصدر عن قرن استشعار اجتماعي خلقه الله ليكون لقومه الموقظ والمنبه والنذير والمبشر والمهدهد والراعي، والحاكم، المستيقظ إذا ناموا، النائم فقط حين يستيقظون؛ تلك الكلمة وحدها هي التي تشفي اكتئابنا الفردي والجماعي، ففي داخلها كيمياء. الصدق المغير والمحول، في داخلها شحن الطاقة الذرية، وإشعاع الحقيقة المعدية، في داخلها يكمن السر.
أعرفت الآن يا سيدي الكاتب الموظف لماذا لا نزال نكتب؟!
ولماذا لا تزال أنت تقرأ؟!
الكاتب عمله أن ينقد
العودة للكتابة كالعودة لحمل السلاح، لها رهبة، فلست أعود باختياري، والفن ليس مزاجا ووحيا ومهنة وتخصصا كما يحلو للبعض أن يقول، وألف مرة رثيت لأولئك الأصدقاء والزملاء الذين كانوا ينعون علي أني أضيع وقتي في العمل «الإداري»، بينما المفروض ألا أفعل شيئا في هذه الحياة إلا الجلوس إلى المكتب وكتابة القصص والمسرحيات، أرثى لهم لأنهم يحيلون بهذا الكاتب إلى حرفي، بالضبط إلى ساعاتي جالس طوال النهار إلى مكتب هو الآخر، كل الفرق أنه بدلا من تصليح الساعات، «يصنع» القصص والمسرحيات. ومن قال إن الكاتب هكذا؟
من قال إن القصص تستجلب من تخصص وجلسة إلى مكتب وتحديق في الفراغ؟ من قال إن الفن صنعة وحرفة ووظيفة؟
إن الفن، كالعواطف، خاصية، وبمثل ما لا يمكنك إطلاقا أن تحترف البكاء أو الضحك، فكذلك لا يمكن ومن غير المعقول أن تحترف الإبكاء أو الإضحاك أو تحريك العواطف. إني معهم أن هناك أناسا يفضلون أخذ الكتابة والفن على هذا النحو، تماما كما أن هناك «ندابات» متخصصات في الإبكاء و«بلياتشوهات» متخصصة في الإضحاك.
ولكن في رأيي، وفي رأي العلم على ما أعتقد ، أن الكتابة إفراز حتمي لحياة فنية.
أنت تحيا وتكتب، ولست أبدا تحيا لتكتب.
صفحه نامشخص