تابع حديثه وهو يمسد شعره الداكن إلى الخلف على رأسه، ويمرر يديه إلى الخارج عبر صدغيه مرارا بأقصى درجات التوتر المحموم، قائلا: «عندما وقف أول مرة تحت ضوء الخطر، لماذا لم يخبرني بالمكان الذي كانت ستقع فيه الحادثة؛ لو أنها أمر محتوم حدوثه؟ لماذا لم يطلعني على كيفية تجنبها؛ لو كان بالإمكان تجنبها؟ عندما أخفى وجهه عند مجيئه للمرة الثانية، لماذا لم يقل لي عوضا عن هذا: «سوف تلقى حتفها. اجعلهم يبقونها بالبيت»؟ ولو أنه جاء في هاتين المناسبتين لمجرد أن يظهر لي أن تحذيراته صحيحة، ومن ثم، يهيئني للثالثة، فلماذا لا يحذرني تحذيرا واضحا الآن؟ إنني - فليعني الرب! - مجرد عامل تحويلة مسكين في هذه المحطة المنعزلة! لماذا لا يذهب إلى شخص ذي شأن، فإذا تحدث كان مصدقا، وذي سلطة تتيح له التصرف؟!»
عندما رأيته في هذه الحالة، رأيت أن ما يجب علي فعله في الوقت الحاضر، لأجل هذا المسكين، ولأجل السلامة العامة أيضا، أن أهدئ من روعه؛ لذا نحيت جانبا كل ما يتعلق بالواقع أو الوهم فيما بيننا، وأوضحت له أن من يضطلع اضطلاعا كاملا بمقتضيات وظيفته تلك عليه أن يؤديها كما ينبغي، وأن عزاءه على الأقل أنه قد فهم واجبه، مع أنه لم يستوعب تلك التجليات الشبحية المحيرة. حالفني النجاح في هذه المحاولة أكثر بكثير مقارنة بمحاولة استخدام المنطق لرده عن قناعته؛ فصار هادئا. ومع مضي الليل، بدأت الشواغل العارضة لوظيفته تتطلب مزيدا من انتباهه، وغادرته في الساعة الثانية صباحا. عرضت عليه أن أبقى وأمضي معه الليل، لكنه أبى أن يسمح لي بذلك.
لا أرى سببا يدعوني لأن أخفي أنني نظرت ورائي أكثر من مرة إلى الضوء الأحمر وأنا أصعد الدرب، وأنني لم أحب ذلك الضوء الأحمر، وأنني كنت سأعاني من نوم سيئ لو كان فراشي أدناه. ولم يرق لي تعاقب واقعتي حادثة القطار وموت الفتاة. ولا أرى سببا يدعوني لأن أخفي ذلك أيضا.
بيد أن أكثر ما جال في عقلي كان التفكير فيما يتعين علي فعله حيال الأمر، بعد أن أصبحت المتلقي لهذه المكاشفة؟ لقد ثبت لي أن الرجل يتمتع بالذكاء واليقظة والمثابرة والدقة، ولكن إلى متى يمكن أن يظل هكذا، في ظل حالته النفسية هذه؟ فمع كونه يشغل وظيفة دنيا، فإنه يحمل مسئولية غاية في الأهمية، وهل يمكن أن أراهن بحياتي (مثلا) على احتمالات استمراره في القيام بها بدقة؟
وفي ظل عدم قدرتي على التغلب على شعوري بأنه سيكون ثمة خيانة في نقل ما أخبرني به إلى رؤسائه في الشركة، دون أن أصارحه أولا وأعرض عليه مسلكا وسطا، عزمت في النهاية على أن أعرض عليه أن أصطحبه (على أن أحفظ سره) إلى أفضل طبيب في تلك الأنحاء، ونأخذ رأيه. كان قد أعلمني أنه سيحدث تغيير في توقيت خدمته في الليلة التالية، وأنه سيكون خارج الخدمة بعد ساعة أو ساعتين من الشروق، وسيعود إلى الخدمة من جديد بعد الغروب بقليل؛ ووفقا لذلك، حددت موعد عودتي.
كان المساء التالي جميلا، وخرجت مبكرا لأستمتع به. لم تكن الشمس قد غربت بعد تماما عندما اجتزت درب الحقل بالقرب من قمة مجرى القطار السحيق. قلت لنفسي إنني سأطيل مدة تريضي ساعة؛ نصف ساعة ذهابا ونصف ساعة إيابا؛ ومن ثم سيكون وقت الذهاب إلى كشك عامل التحويلة قد حل.
قبل مواصلتي التمشية، تقدمت نحو الحافة، ونظرت عفويا إلى الأسفل، من الموقع الذي كنت قد رأيت العامل منه للمرة الأولى. لا يمكنني أن أصف الانفعال الذي تملكني عندما رأيت - بالقرب من فوهة النفق - هيئة رجل، كمه يغطي عينيه، ويلوح بقوة بذراعه اليمنى.
وبعد برهة، زال الرعب الذي لا يوصف الذي عصف بي؛ إذ سرعان ما أدركت أن هيئة الرجل كانت رجلا بالفعل، وأن ثمة مجموعة صغيرة من رجال آخرين يقفون على مسافة قريبة، بدا أنه يكرر حركة الذراع التي قام بها أمامهم. لم يكن مصباح الخطر قد أضيء بعد. وأمام عمود المصباح، كان كوخ صغير منخفض لم تقع عليه عيناي من قبل قد صنع من بعض الدعامات الخشبية والقماش المشمع، وبدا حجمه لا يتعدى حجم سرير.
وبشعور لا يقاوم بأن ثمة خطبا ما - مع خوف خاطف مشوب بلوم للذات من أن يكون ضرر قاتل قد وقع من جراء تركي للرجل هناك، والتسبب في عدم إرسال أحد ليشرف على ما يقوم به أو يصححه - هبطت الدرب المشقوق بأقصى سرعة ممكنة.
سألت الرجال: «ما الخطب؟»
صفحه نامشخص