مامور مخفی: یک داستان ساده
العميل السري: حكاية بسيطة
ژانرها
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحه نامشخص
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
صفحه نامشخص
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
العميل السري
العميل السري
حكاية بسيطة
تأليف
صفحه نامشخص
جوزيف كونراد
ترجمة
إبراهيم سند أحمد
مراجعة
محمد حامد درويش
إلى
إتش جي ويلز
مدون وقائع حب السيد لويشام
وكاتب سيرة كيبس ومؤرخ العصور المقبلة
أهدي، مع حبي وتقديري، هذه الحكاية البسيطة من القرن التاسع عشر.
صفحه نامشخص
الفصل الأول
خرج السيد فيرلوك في الصباح وترك متجره ظاهريا في عهدة صهره. لم يواجه صهره صعوبة؛ لأن المتجر ما برح يشكو من قلة زبائنه، بل إن اليوم كان يخلو من العمل تماما حتى يدخل المساء. لم يكن السيد فيرلوك يكترث كثيرا بعمله الظاهري. بل إنه عهد برعاية صهره إلى زوجته.
كان المتجر صغيرا وكذلك المنزل. كان المنزل واحدا من تلك المنازل المبنية باللبنات ذات اللون القاتم التي غطت مساحة شاسعة قبل أن يبزغ فجر حقبة إعادة الإعمار على لندن. اتخذ المتجر شكلا مربعا وكانت الواجهة مزججة بألواح زجاجية صغيرة. كان الباب يظل مغلقا في فترة النهار، وفي المساء يوارب بحذر، ولكن على نحو يثير الشكوك.
احتوت النافذة على صور فوتوغرافية لفتيات راقصات عاريات أو شبه عاريات؛ وعبوات لا تحمل وصفا لمحتوياتها وملفوفة وكأنها أدوية مسجلة ببراءات اختراع؛ ومظاريف ورقية صفراء مغلقة من نوع رديء للغاية ومكتوب عليها الرقم اثنان والرقم ستة ببنط عريض أسود؛ وبضعة منشورات قديمة فرنسية ساخرة معلقة في خيط، وكأنها معلقة كي تجف؛ وطبق صيني بلون أزرق قاتم، وبرميل من الخشب الأسود، وزجاجات حبر غير قابل للمحو وأختام مطاطية؛ وبضعة كتب بعناوين تشير إلى محتوى غير لائق؛ وبضعة نسخ قديمة من جرائد غير معروفة ذات طباعة رديئة تحمل عناوين مثل «ذا تورتش»، «ذا جونج»؛ عناوين مثيرة. وفي الجهة الداخلية من الألواح الزجاجية كان يوجد موقدا غاز منخفض ضوءهما على الدوام؛ إما توفيرا للنفقات أو إرضاء للعملاء.
كان هؤلاء العملاء إما شبانا صغارا في السن يقفون أمام النافذة لمدة من الوقت قبل الدخول فجأة؛ أو رجالا ناضجين، ولكن يبدون عموما مفلسين. كان البعض من هذا النوع الأخير يرفعون ياقة المعطف بحيث تصل إلى شواربهم، وتلتصق آثار الطين في أسفل سراويلهم التي تبدو مهترئة جدا وليست ذات قيمة كبيرة. وكانت السيقان بداخل تلك السراويل تبدو عموما وكأنها جلد على عظم. وكانوا يدخلون من الباب بالورب، وقد أدخلوا أيديهم في جيوب معاطفهم، وكأنهم يتفادون الجرس ويخشون صلصلته.
كان يصعب تفادي الجرس المعلق على الباب في طوق مقوس من الفولاذ. كانت في الجرس تصدعات لا علاج لها؛ ولكن في المساء، عند أدنى حركة بجانبه، كان يصلصل من خلف العميل وكأنه صلصلة الرعد.
صلصل الجرس؛ وعند تلك الإشارة، ومن خلال الباب الزجاجي المكسو بالغبار، ومن خلف منضدة البيع، يخرج السيد فيرلوك مسرعا من غرفة المعيشة في الخلف. كان من الطبيعي أن يرى النعاس في عينيه؛ فقد كان يبدو وكأنه بات يتمرغ على سرير غير مرتب طوال اليوم بملابسه كاملة. لو كان رجلا آخر، كان سيشعر أن الخروج بهذا المظهر نقيصة لا اختلاف عليها. يعتمد نجاح معاملات البيع بالتجزئة اعتمادا كبيرا على طريقة جذب العملاء والتودد من جانب البائع. ولكن السيد فيرلوك كان يجيد عمله، ولم يكن يهتم البتة بشأن مظهره الجمالي. بنظرات عابسة وثابتة، بدا أنها تخرس ألسنة بعض المزعجين وتمنع توعدهم له، كان يباشر، من وراء منضدة البيع، بيع منتجات لا يختلف اثنان على أنها لا تساوي قيمة الأموال التي تدفع فيها؛ ومنها على سبيل المثال، صندوق صغير من الورق المقوى فارغ المحتوى على ما يبدو، أو مظروف من تلك المظاريف الصفراء ذات الجودة الرديئة والمغلقة بعناية، أو عدد مجلة ذو غلاف يحمل عنوانا واعدا. ومن وقت لآخر، كانت صور فتيات الرقص ذوات الأصل الآسيوي تباع إلى أحد الهواة ، وكأنها فتاة حقيقية تنبض بالحيوية والشباب.
في بعض الأحيان، كانت السيدة فيرلوك هي التي تخرج عند سماع صلصلة الجرس. كانت ويني فيرلوك شابة ممتلئة الصدر، ترتدي صدرية ضيقة، وذات فخذين عريضتين. كان شعرها مهندما. وبنظرات ثابتة مثل زوجها، كانت تقف خلف حاجز المنضدة وعلى وجهها تعبيرات لا مبالاة يستعصي فهم كنهها. حينئذ ربما كان الارتباك يتملك فجأة زبونا غضا بسبب اضطراره إلى التعامل مع امرأة، فيتقدم والغيظ يملأ قلبه ويطلب زجاجة حبر غير قابل للمحو؛ قيمة بيعه بالتجزئة ستة بنسات (السعر في متجر فيرلوك شلن وستة بنسات) وبمجرد أن يخرج من المتجر، يكون قد أنفق في صمت آخر بنس بحوزته.
كان زوار الليل - الرجال ذوو الياقات المرفوعة والقبعات الناعمة المائلة إلى الأمام - يأتون ويحيون السيدة فيرلوك بإيماءة فيها ألفة، وبعد التحية الصامتة يرفعون الحاجز القلاب في نهاية منضدة البيع من أجل المرور إلى غرفة المعيشة الخلفية، التي توصلهم إلى ممر ثم إلى درج شديد الانحدار. كان باب المتجر هو الوسيلة الوحيدة للدخول إلى المنزل الذي كان السيد فيرلوك يمارس أعماله فيه سواء باعتباره بائع سلع مشبوهة أو باعتباره حامي حمى المجتمع ومن يغرس فيه الفضيلة. وكثيرا ما كان يزعم الأمرين الأخيرين. كان يقضي جل وقته في بيته. لم تكن احتياجاته الروحية أو العقلية أو البدنية من النوع الذي يتطلب منه المكوث خارج البيت كثيرا. بل وجد في البيت راحة بدنه وسلامة عقله، إلى جانب الاعتناء من زوجته والاحترام من والدتها.
كانت والدة ويني امرأة بدينة، أنفاسها مصحوبة بصفير، ولها وجه بني كبير. كانت تضع شعرا أسود مستعارا تحت قلنسوة بيضاء. تسبب تورم ساقيها في خمول حركتها. كانت تعتبر نفسها من أصل فرنسي، وربما كان ذلك حقيقيا؛ وبعد سنوات عديدة من الحياة الزوجية مع بائع مرخص للمواد الكحولية من النوع المنتشر، انغمست في حياة الترمل بتأجير شقق مفروشة لرجال بالقرب من طريق جسر فوكسهول في ميدان كان - ولا يزال - ينطوي على بعض الرقي، في منطقة بلجرافيا. قدمت لها هذه السمات الطبوغرافية بعض المزايا في إعلانها عن شققها؛ ولكن زبائن الأرملة ذات الوجاهة لم يكونوا بالضبط من النوع العصري. ومع ما كانوا عليه من علات، ساعدت ابنتها ويني في الاعتناء بهم. تجلت سجايا الأصول الفرنسية، التي كانت الأرملة تتفاخر بها، في ويني أيضا. كانت بادية في تسريحة شعرها الأسود اللامع المنمقة والمتقنة. كانت ويني تتحلى بصفات جمالية أخرى، منها شبابها وقوامها الممتلئ والملفوف وبشرتها الصافية؛ وتفضيلها للتحفظ الذي يستعصي فهم ما وراءه، والذي لم يحملها على الامتناع عن محادثة المستأجرين، الذين كانوا يحادثونها بحماس، بينما تحادثهم بلطف وود مكافئ. لا بد أن السيد فيرلوك وقع في براثن سحرها. كان السيد فيرلوك من الزبائن الذين يأتون على فترات متقطعة. كان يأتي ويذهب من دون أي سبب واضح. وبوجه عام، وصل إلى لندن (مثل الأنفلونزا) من القارة الأوروبية، غير أنه وصل من دون أن تعلن الصحف عن مجيئه؛ وكان ينطلق في زياراته بعزيمة جبارة. كان يتناول إفطاره على السرير ويظل يتقلب فيه باستمتاع هادئ حتى ظهيرة كل يوم، بل ويتأخر حتى بعد الظهيرة في بعض الأحيان. ولكن عندما كان يخرج، كان يبدو أنه يواجه صعوبة كبيرة في أن يجد طريق عودته إلى منزله المؤقت الكائن في ميدان بلجرافيا. كان يغادر المنزل في وقت متأخر ويعود إليه في وقت مبكر - في حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحا - وعندما يستيقظ في الساعة العاشرة، ينادي على ويني لكي تحضر له الإفطار ممازحا ومتلطفا بصوت أجش وواهن وبنبرات متعبة وكأنه ظل يتحدث بصوت عال لساعات متواصلة. كانت عيناه البارزتان المثقلتان بالنوم تدوران في محجريهما والتعب والغرام باديان فيهما، وأغطية السرير مشدودة حتى ذقنه، وشاربه الأسود الناعم يغطي شفتيه السميكتين اللتين لا تتوقفان عن المزاح المعسول.
صفحه نامشخص
من وجهة نظر والدة ويني، كان السيد فيرلوك رجلا لطيفا للغاية. من خبرات حياتها التي جمعتها من «بيوت عمل» مختلفة، وضعت المرأة الطيبة بعد تقاعدها مثالا في اللطف كما تتسم الزبائن في حانات الصالونات الخاصة. وكاد السيد فيرلوك أن يصل إلى ذلك المثال ؛ بل إنه، في الواقع، وصل إليه.
كانت ويني قد أوردت ملاحظة قائلة: «بالطبع سنتولى أمر أثاثك يا أمي.»
كان من المزمع أن يخلي المنزل. يبدو أنه لم يكن من الممكن الاستمرار في استئجاره. ربما كان ينطوي على الكثير من المتاعب للسيد فيرلوك. لم يكن المنزل ملائما لأعماله الأخرى. لم يقل ما هي أعماله الأخرى؛ ولكن بعد ارتباطه بويني تحمل عناء الاستيقاظ قبل الظهيرة، والنزول إلى الطابق السفلي، ورسم ابتسامة على وجهه من أجل والدة ويني القابعة دون حراك في غرفة الإفطار بالطابق السفلي. كان يداعب القطة ويحرك نار المدفأة، ويقدم له الغداء في تلك الغرفة. لم يخف تردده في مغادرة السرير الوثير، ولكن، على الرغم من ذلك، كان يبقى بالخارج حتى وقت متأخر من الليل. لم يعرض قط على ويني أن يصحبها إلى المسارح، مثلما كان يجب على رجل لطيف مثله أن يفعل. فقد كانت أمسياته مشغولة. أخبر ويني ذات مرة أن عمله له علاقة بالسياسة. ومن ثم، نبهها إلى ضرورة التلطف مع أصدقائه السياسيين.
وبنظرتها الحادة، التي لا يعرف ما وراءها، أجابته بأنها ستفعل ذلك بالطبع.
استعصى على والدة ويني أن تكتشف كم المعلومات التي ذكرها لزوجته عن عمله. تولى الزوجان أمرها مثلما توليا أمر أثاثها. ولكنها فوجئت بالمظهر القبيح للمتجر. أثر الانتقال من ميدان بلجرافيا إلى شارع ضيق في سوهو سلبا على ساقيها. أصبح حجمهما هائلا. ولكن من الناحية الأخرى، أزاحت عن كاهلها تماما الأعباء المادية. منحتها طيبة زوج ابنتها شعورا بالأمان المطلق. كان من الواضح أن مستقبل ابنتها صار مضمونا، وحتى بالنسبة إلى ابنها ستيفي، لم تعد بحاجة لأن تشعر بالقلق. لم تستطع أن تتغافل عن أنه عبء ثقيل، ذلك المسكين ستيفي. ولكن نظرا لولع ويني بأخيها الحساس، ونظرا للطف وكرم السيد فيرلوك، أحست بأن الصبي البائس في مأمن في هذا العالم القاسي. وفي صميم قلبها ربما لم تكن مستاءة من أن فيرلوك لم يكن لديه أطفال. نظرا لأن السيد فيرلوك لم يكترث لذلك الظرف، ولأن ويني وجدت نزعة تشبه نزعة الأمومة تجاه شقيقها، فربما كان هذا أيضا جيدا للمسكين ستيفي.
كان من الصعب التخلص من هذا الصبي. كان مرهف الحس، وكان حسن المظهر أيضا، بطريقة هشة، باستثناء تدلي شفته السفلية. وبفضل نظام التعليم الإجباري الذي يمتاز به مجتمعنا، تعلم القراءة والكتابة، على الرغم من مظهر شفته السفلية غير المحبب. ولكن عندما عمل مرسالا، لم يحقق نجاحات كبيرة. إذ كان ينسى رسائله؛ وكان يسهل أن يحيد عن مسار واجبه بالانجذاب إلى القطط والكلاب الضالة، التي كان يتبعها في الأزقة الضيقة إلى ساحات تعج بالقمامة؛ أو إلى العروض الكوميدية في الشوارع، التي كان يمكث لمشاهدتها فاغرا فاه، ومن ثم ينسى مصالح صاحب العمل؛ أو إلى العروض الدرامية التي تدور حول خيول تسقط مجندلة، حتى تدفعه الشفقة والعنف في بعض الأحيان إلى إطلاق صرخة مدوية وسط الحشود التي لم يكن يروقها أن تزعجها أصوات الحزن التي تخرب عليها استمتاعها الهادئ بالمشهد الوطني. وعندما كان يقتاده شرطي فظ يحميه بإبعاده، فغالبا ما كان يتضح أن ستيفي البائس قد نسي عنوانه، لمدة من الوقت على الأقل. كان سؤال بأسلوب فظ يتسبب له في التأتأة لدرجة الاختناق. وعندما يتملكه الذهول من أي شيء محير، كان يحدق بشكل مرعب. ومع ذلك، لم يكن قد عانى من أي نوبات في حياته (وكان هذا أمرا مشجعا)؛ وفي أيام طفولته، اعتاد أن يجري للاحتماء خلف أخته ويني قبل أن يصب والده نوبات غضبه الطبيعية عليه عندما ينفد صبره. ومن ناحية أخرى، ربما شك الآخرون في أنه كان يخفي قدرا من الطيش المتهور. عندما كان قد بلغ الرابعة عشرة من عمره، بعد أن منحه أحد أصدقاء والده الراحل، الذي كان وكيلا لشركة ألبان محفوظة أجنبية، فرصة العمل بوظيفة ساع، شوهد عصر أحد الأيام الضبابية، في غياب رئيسه، مشغولا بإطلاق ألعاب نارية على الدرج. في تتابع سريع، أطلق مجموعة من الصواريخ الشعواء والألعاب النارية المعروفة باسم عجلات كاثرين ومفرقعات عالية الصوت، وربما باتت المسألة بالغة الخطورة. انتشر هلع شديد في المبنى بكامله. أخذ موظفون انتابهم الهلع والاختناق يفرون عبر الممرات المليئة بالدخان، وتدحرج رجال أعمال مسنون يرتدون قبعات حريرية على السلم دون أن يلمسهم أحد. لم يبد أن ستيفي حصل على أي متعة شخصية مما فعله. ولذا استعصى التعرف على كنه دوافعه وراء هذا الذعر الذي تسبب فيه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أخذت منه ويني اعترافا اتسم بالغموض والتشويش. يبدو أن اثنين من موظفي البوفيه قد لعبا على مشاعره بسرد حكايات عن الظلم والقمع مما أثار تعاطفه إلى حد الجنون. ولكن بالطبع طرده صديق والده لأنه باختصار قد يخرب عمله. بعد هذا الاستغلال الإيثاري، أصبح عمل ستيفي هو المساعدة في غسل الأطباق في المطبخ الكائن بالطابق السفلي، وتلميع أحذية السادة مستأجري المنزل الكبير في بلجرافيا. لم يكن خافيا أن هذا العمل لم يكن له مستقبل. كان السادة يعطونه شلنا بقشيشا بين آن وآخر. كان السيد فيرلوك هو أكرم المستأجرين. ولكن كل هذا لم يبلغه الكثير سواء من حيث المكسب أو الفرص المستقبلية؛ ومن ثم لما أعلنت ويني خطبتها إلى السيد فيرلوك لم تتساءل الأم عما سيحل بستيفي البائس الآن، وأخذت تتنهد وهي تنظر صوب غرفة غسل الأطباق.
اتضح أن السيد فيرلوك كان عازما على تولي أمره وأمر أم زوجته وأمر الأثاث الذي كان يمثل كامل الثروة الواضحة للأسرة. اتسع صدر السيد فيرلوك لكل شيء إذ كان من طبيعته سعة الصدر والطيبة. وزع الأثاث بأفضل ما يكون في أرجاء المنزل، ولكن إقامة والدة ويني انحصرت في غرفتين خلفيتين بالطابق الأول. اتخذ ستيفي التعيس الحظ واحدة منهما كي ينام فيها. بحلول ذلك الوقت، كان نمو الشعر الأصفر الرقيق قد بدأ على نحو غير واضح، وأصبح يشكل خطا دقيقا كقطرات ندى ذهبية على فكه السفلي الصغير. ساعد أخته بحب مطلق وطاعة في أداء واجباتها المنزلية. فكر السيد فيرلوك في أن انشغاله بعمل ما سيكون جيدا له. لذا شغل وقت فراغه برسم دوائر باستخدام فرجار وقلم رصاص على قصاصة ورق . شغل نفسه بتلك التسلية ولم ينقطع عنها وهو جالس على طاولة المطبخ ومرفقاه مفرودان وظهره منحن عليها. عبر الباب المفتوح لغرفة المعيشة الكائنة في الجزء الخلفي من المتجر، اعتادت أخته ويني أن تراقبه من وقت إلى آخر بيقظة الأم.
الفصل الثاني
هكذا كان حال المنزل والأسرة والأعمال التي خلفها السيد فيرلوك وراءه وهو في طريقه غربا في الساعة العاشرة والنصف صباحا. كان الوقت مبكرا على نحو غير معتاد له؛ وكانت تنبعث من جسده كله نضارة الندى الساحرة؛ وارتدى معطفا أزرق من دون أن يربط أزراره؛ وكان حذاؤه لامعا؛ وحلق ذقنه في الصباح، وكانت لامعة نوعا ما؛ وحتى عيناه المثقلتان بالنوم انتعشتا بعد نوم هادئ وكانتا تبعثان نظرات تنم عن يقظة غير معهودة. عبر سياج الحديقة، وقعت هذه النظرات على رجال ونساء يركبون الخيول في طريق رو، وأزواج يتجولون في انسجام، وآخرين يتنزهون في هدوء، ومجموعات مكونة من ثلاثة أفراد أو أربعة يتسكعون، وفرسان منعزلين يبدون منطوين على أنفسهم، ونساء يمشين بمفردهن ويتبعهن على مسافة بعيدة رجل يربط عقدة بشريط على قبعته ويرتدي حزاما جلديا فوق معطفه الضيق. مضت عربات بسرعة وسلاسة، معظمها عربات خفيفة يجرها حصانان، وهنا وهناك كانت ترى عربة فيكتوريا مكشوفة مكسوة بجلد حيوان بري من الداخل ويظهر من فوق الغطاء المطوي وجه امرأة وقبعة. وشمس لندن المميزة - التي لا يمكن أن يقال فيها شيء سوى أنها بدت مشربة بالحمرة - تمجد كل هذا بنظرتها. ارتفعت إلى كبد السماء فوق حديقة هايد بارك كورنر وسطعت بأشعتها في يقظة دقيقة وحميدة. وكان للرصيف نفسه تحت أقدام السيد فيرلوك مسحة ذهبية في ذلك الضوء المنتشر، في وقت لم يكن فيه ظل لحائط أو شجر أو حيوان أو إنسان. كان السيد فيرلوك ماضيا غربا عبر مدينة لا ظلال فيها في جو تنشر فيه الشمس أشعتها الذهبية. انعكست الأشعة ذات اللون النحاسي الأحمر على أسقف المنازل وزوايا الجدران وألواح العربات وسروج الخيول وعلى ظهر المعطف العريض الذي كان يرتديه السيد فيرلوك؛ حيث أعطت تأثيرا باهتا كالصدأ. ولكن السيد فيرلوك لم يدرك بأي حال أن ملابسه تعكس ذلك اللون الصدئ. أخذ ينظر بعين الرضا من فوق سياج الحديقة إلى ترف المدينة ورفاهيتها. لا بد من توفير الحماية لكل هؤلاء الناس. الحماية هي الضرورة الأولى من أجل الترف والرفاهية. لا بد من توفير الحماية لهم؛ ولا بد من توفير الحماية لخيولهم وعرباتهم ومنازلهم وخدمهم؛ ولا بد من توفير الحماية لمصدر ثروتهم وينبغي أن يدرك المسئولون في المدينة والدولة ذلك؛ ولا بد من توفير الحماية للنظام الاجتماعي بالكامل الملائم لبطالتهم ذات الآثار الصحية الإيجابية من الغيرة السطحية للعمالة غير الصحية. كان لا بد من حمايتها؛ ولو لم يكن السيد فيرلوك ساخطا من الناحية الدستورية على كل مجهود غير ضروري، لفرك يده تعبيرا عن الرضا. لم يكن خموله صحيا، ولكنه أتى على هواه. كرس حياته لتلك المعيشة بشيء من التعصب الخامل أو بالأحرى الخمول المتعصب. ولد من أبوين كادحين في الحياة، ولكنه آثر التراخي من دافع في أعماقه لا يمكن تفسيره ولا يمكن نكرانه مثل نبض القلب الذي يفضل امرأة معينة على باقي النساء. بلغ الكسل منه مبلغا لا يبلغه حتى زعيم حركة لا سلطوية أو خطيب عمال أو قائد حركة عمالية. كانت هذه مشكلة كبيرة للغاية. سعى إلى حياة من الدعة الكاملة؛ أو ربما وقع ضحية عدم إيمان فلسفي بفاعلية كل جهد بشري. هذا الشكل من التراخي يتطلب، بل ينطوي على قدر من الذكاء. لم يكن السيد فيرلوك منعدم الذكاء، وردا على فكرة وجود نظام اجتماعي مهدد، ربما كان سيغمز بعينه لنفسه لو لم يكن ثمة جهد في إتيان تلك العلامة الدالة على التشكك. لم تكن عينه الكبيرة والبارزة متكيفة جيدا على الغمز. كانت بالأحرى من النوع الذي يغلق بوقار وكأنه يهجع إلى النوم مع تأثير مهيب.
كان السيد فيرلوك يتصف بالغموض وضخامة البنية وكأنه حيوان ضخم؛ ومن دون أن يفرك يديه تعبيرا عن الرضا أو يغمز تعبيرا عن الشك في أفكاره، تقدم في طريقه. أخذ يدب على الرصيف متثاقل الخطى بحذائه اللامع، ومظهره العام يوحي بأنه ميكانيكي موسر ماض في عمل خاص. ربما كان يمتهن أي مهنة بداية من صانع إطارات صور وحتى صانع أقفال؛ أو صاحب عمل في مشروع صغير. ومع ذلك، كان يكتنفه أيضا مظهر لا يوصف لم يكن من الممكن أن يكتسبه أي ميكانيكي في ممارسة مهنته مهما كان يمارسها بطرق غير سوية؛ المظهر المشترك بين الرجال الذين يعيشون على الرذائل، أو الحماقات، أو المخاوف الأساسية لدى البشرية؛ مظهر العدمية الأخلاقية الشائع بين رعاة صالات القمار وبيوت الدعارة؛ الشائع بين أفراد البوليس السري ووكلاء التحقيقات؛ بين بائعي الخمور، ويمكن القول، بين بائعي الأحزمة الكهربائية المنشطة ومبتكري الأدوية المسجلة ببراءات اختراع. ولكني لست متأكدا من هذا الأخير؛ لأنني لم أتعمق في تحقيقاتي في ذلك الأمر حتى الآن. وعلى حد علمي، قد تكون سحنة هؤلاء الأشخاص الأخيرين شرا مستطيرا. لا ينبغي أن أتفاجأ. ما أريد التأكيد عليه هو أن سحنة السيد فيرلوك كانت بلا جدال سحنة شيطانية.
صفحه نامشخص
قبل الوصول إلى نايتسبريدج، انعطف السيد فيرلوك إلى اليسار بعيدا عن الطريق العام المزدحم وعن صخب سيارات النقل العام المترنحة وعربات النقل السريعة، ودخل بين عربات الخيول السريعة التي لا تكاد تسمع لها صخبا. تحت قبعته، التي كان يرتديها مائلة قليلا إلى الخلف، كان شعره ممشطا بعناية حتى صار ناعما؛ لأن الشأن الذي كان ماضيا إليه هو مع إحدى السفارات. وفي ذلك الوقت كان السيد فيرلوك يسير، راسخا كصخرة - صخرة من نوع ناعم - في شارع من الملائم للغاية وصفه بأنه شارع خاص. تجلت فخامة الشارع في عرضه وعدم ازدحامه ومدى عظم طبيعته الجامدة المصنوعة من مادة لا تموت. كان التذكير الوحيد للموت هو عربة طبيب تجرها الخيول واقفة في عزلة مهيبة بالقرب من الرصيف. التمعت مقارع الأبواب المصقولة بقدر ما أمكن للعين أن تصل إليه، والتمعت النوافذ النظيفة ببريق معتم داكن. وكان كل شيء ساكنا. لكن قطعت هذا الهدوء ضوضاء عربة حليب لاحت من مسافة بعيدة؛ وانطلق صبي جزار، يقود بالتهور النبيل لقائد عجلة حربية في ألعاب أولمبية، وانعطف عند ناصية الشارع وهو جالس مرتفعا على عجلتين حمراوين. خرجت قطة، تبدو وكأنها ارتكبت جرما، من تحت الصخور وركضت لبعض الوقت أمام السيد فيرلوك، ثم اختفت في قبو آخر؛ شرطي سمين بدا أنه لا يتحرك البتة، كما لو كان هو الآخر جمادا، لما خرج من خلف عمود الإنارة، لم يلحظ السيد فيرلوك البتة. تابع السيد فيرلوك طريقه منعطفا إلى اليسار في شارع ضيق بجانب حائط أصفر، ولسبب غامض، كان يوجد على الجدار لوحة مكتوب عليها بحروف سوداء «رقم 1 ميدان تشيشام». كان ميدان تشيشام يبعد مسافة لا تقل عن ستين ياردة، ولأن السيد فيرلوك كان واسع الاطلاع بحيث لم يكن من الممكن أن ينخدع بألغاز لندن الطبوغرافية، فقد تابع سيره بثبات، دون أن تبدر منه إشارة على المفاجأة أو السخط. وفي النهاية، وبإصرار جاد، وصل إلى الميدان وقطع الطريق إلى البناية رقم 10. تضمنت هذه البناية بوابة تحميل ضخمة مثبتة في جدار نظيف بين منزلين يحمل أحدهما الرقم 9، وهو شيء منطقي، والآخر الرقم 37؛ ولكن الحقيقة أن هذا المنزل الأخير كان يقع في شارع بورتهيل، وهو شارع معروف في الحي، عرفه من خلال نقش فوق نوافذ الطابق الأرضي كتبته سلطة ذات كفاءة عالية ومسئولة عن تتبع المنازل الشاردة في لندن. من الألغاز التي تحوم حول إدارة البلدية لماذا لا يطلب من البرلمان صلاحيات (قرار مقتضب سيفي بالغرض) لإجبار تلك الصروح على العودة إلى حيث تنتمي. لم يشغل السيد فيرلوك رأسه بتلك الأمور، فمهمته في الحياة هي حماية النظام الاجتماعي، وليس الوصول به إلى المثالية أو حتى انتقاده.
في وقت مبكر، خرج الحارس من السفارة على عجل من مأواه وهو لا يزال يحاول ارتداء كم معطفه الأيسر. كان يرتدي صدرية حمراء وسروالا يصل إلى الركبة، لكنه بدا مضطربا. لما كان السيد فيرلوك مدركا للمندفع الذي مر من جانبه، لم يصعب عليه أن يدفعه بعيدا لما أمسك مظروفا عليه خاتم السفارة وناوله إياه . أخرج التعويذة نفسها إلى الخادم الذي فتح الباب وتراجع كي يسمح له بدخول القاعة.
اتقد لهب نظيف في مدفأة طويلة، ونظر رجل مسن، كان يقف موليا ظهره للمدفأة، ويرتدي ملابس الليل والسلسلة في رقبته، من فوق الجريدة التي كان يمسكها بيديه كلتيهما أمام وجهه الهادئ الذي لم تكن تظهر عليه أي انفعالات. لم يتحرك؛ ولكن خادما آخر يرتدي سروالا بنيا ومعطفا له ذيل مثبت في حافته حبل أصفر رفيع اقترب من السيد فيرلوك واستمع إليه وهو يتمتم باسمه، واستدار في صمت وبدأ يمشي من دون أن ينظر خلفه. ومن ثم اقتيد السيد فيرلوك في ممر في الطابق الأرضي إلى يسار السلم المفروش بالسجاد، وأشير إليه فجأة أن يدخل غرفة صغيرة جدا تحتوي على مكتب ثقيل وبعض المقاعد. أغلق الخادم الباب، وبقي السيد فيرلوك بمفرده. لم يجلس. أمسك قبعته وعصاه بإحدى يديه ونظر فيما حوله، وأخذ يمرر يده المكتنزة فوق شعره الناعم المكشوف.
فتح باب آخر من دون صوت، وتجمد نظر السيد فيرلوك في هذا الاتجاه ورأى للوهلة الأولى ملابس سوداء ورأسا أصلع من الأعلى وسالفا رماديا داكنا يتدلى على كل جانب في يدين متجعدتين. كان الرجل الذي دخل لتوه يمسك حزمة أوراق أمام عينيه ومشى إلى المكتب بخطى هادئة وقلب الأوراق بين الحين والآخر. كان المستشار الخاص وورمت، مستشار السفارة، مصابا بقصر النظر. بعدما وضع هذا المسئول رفيع المستوى الأوراق على المكتب، كشف عن وجه أبيض البشرة ويعلوه قبح الكآبة وتكسوه شعيرات رمادية ناعمة وطويلة وفوق عينيه حواجب كثيفة الشعر. ارتدى نظارة أنفية ذات إطار أسود فوق أنف حاد وعديم الشكل، وبدا مصدوما من مظهر السيد فيرلوك. ومن تحت الحواجب الكثيفة الشعر وعبر النظارة، رمشت عيناه الضعيفتان بطريقة مثيرة للشفقة.
لم يبد أي علامة على التحية، وكذلك لم يفعل السيد فيرلوك، الذي كان يعرف مكانته بالتأكيد، ولكن تغييرا طفيفا في حواف كتفي السيد فيرلوك وظهره أوحى بانحناء طفيف في عموده الفقري تحت معطفه الواسع. كان لهذا التأثير اعتبار غير بارز .
قال الموظف البيروقراطي بصوت ناعم ومتعب على نحو غير متوقع: «لدي هنا بعض من تقاريرك»، وأخذ يضغط بطرف إصبعه بقوة على الأوراق. توقف عن الكلام؛ وانتظر السيد فيرلوك، الذي كان قد تعرف على خط يده على نحو جيد للغاية، في صمت وكأن على رأسه الطير. أردف الآخر، وقد بدت عليه جميع مظاهر الإرهاق العقلي: «لسنا راضين جدا عن موقف الشرطة هنا.»
بدا أن السيد فيرلوك هز كتفيه، ولكنه لم يفعل ذلك في الواقع. وفتح شفتيه للمرة الأولى منذ أن خرج من منزله في ذلك الصباح.
قال بطريقة متفلسفة: «كل بلد لديه شرطته.» ولكن موظف السفارة تابع النظر إليه بثبات وهو يرمش مما أشعره بأنه ملزم بأن يضيف قائلا: «اسمح لي أن أنوه إلى أنه ليس لي سبيل على الشرطة هنا.»
قال الرجل حامل الأوراق: «المطلوب هو وقوع حدث محدد يستثير يقظتهم. وذلك ضمن نطاق عملك، أليس كذلك؟»
لم يجب السيد فيرلوك بأكثر من تنهيدة، أفلتت منه عن غير قصد، مما حمله على رسم تعبير مرح على وجهه على الفور. نظر الموظف إليه متشككا وهو يرمش، وكأنه تأثر بضوء الغرفة الخافت. ثم كرر عبارات غامضة. «يقظة الشرطة؛ وصرامة القضاة. الهوادة العامة في الإجراءات القضائية هنا والغياب التام للتدابير القمعية، عار على أوروبا. ما نرغب فيه الآن هو التركيز على الفوضى، على حالة الهياج التي هي بلا شك موجودة.»
صفحه نامشخص
قاطعه السيد فيرلوك بنبرة جهورية تراعي سمات الخطابة؛ ومن ثم باتت تخالف تماما النبرة التي تحدث بها من قبل، حتى إن مخاطبه ظل مشدوها للغاية: «بلا شك، بلا شك. إنها موجودة ووصلت إلى درجة خطيرة. إن تقاريري عن الاثني عشر شهرا الماضية توضح الأمر بالقدر الكافي.»
شرع مستشار الدولة السيد وورمت في الحديث بنبرته اللطيفة والهادئة: «لقد قرأت تقاريرك عن الاثني عشر شهرا الماضية. ولقد عجزت تماما عن اكتشاف السبب الذي دفعك لكتابتها.»
ساد صمت كئيب لفترة. بدا أن السيد فيرلوك ابتلع لسانه وما انفك الآخر يحملق في الأوراق على المكتب. في النهاية دفعها قليلا. «من المفترض أن يكون الوضع الراهن الذي تعرضه في التقارير هو الحالة الأولى في توظيفك. ليست الكتابة هي المطلوبة في الوقت الحالي، وإنما إلقاء الضوء على واقعة محددة وضرورية، يمكنني القول إنها واقعة تنذر بخطر.»
قال السيد فيرلوك بعد تعديلات مقنعة في نبرة صوته الأجش: «لست بحاجة إلى أن أقول إنني سأوجه كامل جهدي إلى تلك الغاية.» لكنه انزعج من التحديق إليه من خلف عدسات النظارة اللامعة على الجانب الآخر من المكتب. توقف لفترة قصيرة وأبدى إشارة تدل على التفاني المطلق. بدا على موظف السفارة المفيد والجاد في العمل - غير أنه غامض - أنه قد تأثر ببعض الأفكار الوليدة.
قال: «إنك بدين للغاية.»
وخزت هذه الملاحظة، ذات الطبيعة الفلسفية التي تلفظ بها مسئول على دراية بالحبر والأوراق أكثر من متطلبات الحياة العملية، قلب السيد فيرلوك إذ قيلت بأسلوب فظ. فتراجع خطوة إلى الوراء.
صرخ بصوت أجش ومستاء: «عذرا، ما الذي أردت قوله؟»
بدا أن هذه المقابلة أرهقت كثيرا مستشار السفارة المنوط به إجراؤها.
قال: «أظن أنه من الأفضل أن تقابل السيد فلاديمير. نعم، بالتأكيد أظن أنه يجب أن تقابل السيد فلاديمير. من فضلك انتظر هنا.» وخرج بخطى هادئة.
على الفور مرر السيد فيرلوك يده على شعره. تناثرت حبات عرق خفيفة على جبهته. تأفف وأخرج هواء من فمه وكأنه ينفخ في ملعقة ممتلئة بحساء ساخن. ولكن عندما ظهر الخادم الذي يرتدي سروالا بنيا عند الباب صامتا، لم يكن السيد فيرلوك قد تحرك قيد أنملة من مكانه الذي كان واقفا فيه طيلة المقابلة. ظل ساكنا، وشعر وكأن شراكا تحوطه من كل جانب.
صفحه نامشخص
مشى في الردهة المضاءة بمصباح غاز وحيد ثم صعد سلما دائريا ومر عبر رواق مزجج وفخم في الطابق الأول. فتح الخادم الباب، وتنحى جانبا. وطئت قدما السيد فيرلوك سجادة سميكة. كانت الغرفة كبيرة وبها ثلاث نوافذ؛ وجلس شاب له وجه كبير حليق الذقن في كرسي كبير بذراعين أمام مكتب عريض من خشب الماهوجني، وقال بالفرنسية لمستشار السفارة الذي كان يخرج والأوراق في يده: «أنت محق تماما يا عزيزي. إنه بدين؛ ذلك الحيوان.»
كان السيد فلاديمير، الأمين العام الأول، معروفا بعذوبة اللسان واللباقة. كان محبوبا نوعا ما في المجتمع. تمثل ذكاؤه في اكتشاف الروابط اللطيفة بين الأفكار المتناقضة؛ ولما تحدث في ذلك الموضوع، تقدم برأسه وهو جالس على كرسيه، ورفع يده اليسرى وكأنه يعرض إثباتاته المضحكة على الورق بين إبهامه وسبابته، بينما اكتسى وجهه المستدير الحليق بتعبير ارتباك مرح.
ولكنه لم يظهر تعبير المرح أو الحيرة وهو ينظر إلى السيد فيرلوك. لما استلقى في الكرسي العميق ذي الذراعين وفرد مرفقيه مستقيمين ووضع ساقا على ركبته السمينة وعلت وجهه نعومة وبشرة متوردة مثل بشرة الأطفال التي تنبض بالحيوية، بدا أنه لن يحتمل أي هراء من أي شخص.
قال: «أنت تفهم الفرنسية، أليس كذلك؟»
أجاب السيد فيرلوك بصوت أجش بأنه يفهمها. أمال جسمه الضخم إلى الأمام. وقف على السجادة في وسط الغرفة ممسكا قبعته وعصاه في إحدى يديه؛ ووضع اليد الأخرى في جانبه بلا حراك. تمتم خفية بكلام لم يكد يخرج من حلقه بأنه أدى خدمته العسكرية في المدفعية الفرنسية. وفي لحظة وبمشاكسة غير ملائمة، غير السيد فلاديمير اللغة وبدأ يتحدث بالإنجليزية العامية من دون أدنى أثر للكنة أجنبية. «آه! نعم. بالطبع. لنر. ما الوقت الذي حبسته من أجل الحصول على تصميم مجموعة المغلاق لمدفعهم الميداني الجديد؟»
أجاب السيد فيرلوك فجأة ولكن من دون أن يظهر عليه أي انفعالات: «خمس سنوات من الحبس المشدد في قلعة.»
علق السيد فلاديمير: «لقد خرجت بسهولة. وعلى أية حال، الإمساك بك أفادك. ما الذي دفعك إلى هذا العمل؟»
سمع صوت السيد فيرلوك الأجش وهو يتحدث عن الشباب وعن الافتتان المميت بامرأة لا تستحق ...
قاطعه السيد فلاديمير من غير أن يغير رأيه: «أها! فتش عن المرأة.» ولكن دون تلطف، بل على العكس، كانت ثمة مسحة من التجهم في تنازله. سأله: «كم المدة التي عملت فيها لدى السفارة هنا؟»
أجاب السيد فيرلوك: «منذ وقت تولي الراحل بارون ستوت فارتنهايم.» وقال ذلك بنبرات خافتة والحزن يتطاير من بين شفتيه إشارة إلى أسفه على الدبلوماسي الراحل. بثبات لاحظ الأمين العام الأول لعبة الفراسة تلك. «آه! منذ ذلك الوقت. حسنا!» ثم سأل بنبرة حادة: «ما الذي جئت لتقوله؟»
صفحه نامشخص
أجاب السيد فيرلوك ببعض الدهشة بأنه لم يدرك أن لديه شيئا خاصا يقوله. وردت رسالة تستدعيه؛ وأدخل يده يبحث في جيب معطفه، ولكنه قرر ألا يخرجها من جيبه أمام السيد فلاديمير اليقظ والساخر.
قال السيد فلاديمير: «هراء. ما الذي تعنيه بالخروج من حالة كهذه؟ إنك لا تتمتع حتى بجسم يليق بمهنتك. أنت ... واحد من طبقة العمال الجائعة ... هذا يستحيل! أنت ... لا سلطوي أو اشتراكي قانط ... أيهما أنت؟»
قال السيد فيرلوك بنبرة خافتة: «لا سلطوي.»
أردف السيد فلاديمير من دون أن يرفع صوته: «هراء! لقد أفزعت وورمت العجوز نفسه. ما كنت لتخدع أحمق. كل هذه الأمور وقعت عرضا، ولكن يبدو لي أن الأمر مستحيل عليك. لذا بدأت علاقتك بنا بسرقة تصميمات البنادق الفرنسية. ومن ثم قبض عليك. لا بد أن حكومتنا انزعجت من هذا الأمر كثيرا. لا يبدو أنك تتمتع بذكاء كبير.»
بصوت أجش، حاول السيد فيرلوك أن يبرئ نفسه. «بحسب ما ذكرت من قبل، افتتان مميت بامرأة لا تستحق ...»
رفع السيد فلاديمير يده الكبيرة المكتنزة البيضاء. «آه، نعم. الارتباط غير الموفق؛ في شبابك. وضعت يدها على المال ثم باعتك للشرطة؛ أليس كذلك؟»
أكد التغيير المأساوي الذي اعترى ملامح السيد فيرلوك وطأطأة رأسه أن تلك كانت هي الحال المؤسفة. شبك السيد فلاديمير يديه على كاحله الموضوع فوق ركبته. كان جوربه من الحرير الأزرق الداكن. «كما ترى، لم يكن هذا التصرف فطنة منك. ربما أنت سريع التأثر.»
تحدث السيد فيرلوك وعبر بصوت مبحوح وخفي عن أنه لم يعد صغيرا.
أشار السيد فلاديمير بنبرة خبيثة معهودة: «أوه! ذلك فشل لا يداويه العمر. ولكن لا! أنت بدين للغاية لكي تكون كذلك. لم يكن ممكنا أن تبدو هكذا لو كنت سريع التأثر إلى هذه الدرجة. سأخبرك ما أظنه بشأن هذه المسألة؛ أنت شخص كسول. منذ متى وأنت تأخذ أجرا من هذه السفارة؟»
بعد لحظات من التردد المتجهم، كانت الإجابة: «إحدى عشرة سنة. أوكلت إلي مهمات عديدة في لندن لما كان معالي السفير بارون ستوت فارتنهايم لا يزال السفير في باريس. ثم بناء على تعليمات معاليه، استقررت في لندن. أنا إنجليزي.» «أنت إنجليزي! أليس كذلك؟ هل أنا محق؟»
صفحه نامشخص
قال السيد فيرلوك متشددا: «مواطن بريطاني مولود في بريطانيا. ولكن أبي كان فرنسيا، وكذلك ...»
قاطعه الآخر: «لا حاجة للشرح. يمكنني القول إنه كان بإمكانك - من الناحية القانونية - أن تتولى منصب مشير في الجيش الفرنسي وعضو في البرلمان بإنجلترا؛ وعندئذ، ربما كان سيصبح لك بالفعل بعض النفع لسفارتنا.»
استحثت هذه الصورة الذهنية شيئا وكأنه شبح ابتسامة على وجه السيد فيرلوك. احتفظ السيد فلاديمير برزانته وهدوئه. «ولكن كما قلت لك، أنت شخص كسول؛ أنت لا تستغل الفرص التي تسنح لك. في عهد البارون ستوت فارتنهايم، عمل في هذه السفارة كثيرون ممن يفتقرون إلى الفطنة. ومن ثم تسببوا في أن يبني من هم على شاكلتك تصورا خاطئا عن طبيعة تمويل جهاز الخدمة السرية. ومن شأني تصحيح هذا الفهم الخاطئ بإخبارك عما لا يمثله جهاز الخدمة السرية. إنه ليس مؤسسة للأعمال الخيرية. ولقد دعوتك إلى هنا بغرض أن أخبرك بهذا.»
لاحظ السيد فلاديمير التعبير القسري للحيرة الذي ظهر على وجه السيد فيرلوك، فابتسم ابتسامة ساخرة. «أرى أنك فهمتني فهما تاما. يمكنني القول إنك تتمتع بالذكاء اللازم لعملك. ما نريده الآن هو النشاط ... النشاط.»
لما كرر السيد فلاديمير هذه الكلمة الأخيرة، وضع إصبع السبابة الكبيرة والطويلة على حافة المكتب. اختفى أثر الصوت الأجش لدى السيد فيرلوك تماما. صار قفاه ذا لون قرمزي من فوق ياقة معطفه المخملية. ارتجفت شفتاه قبل أن ترتسم عليهما ابتسامة عريضة.
انطلق بصوته الجهوري الخطابي الرائع والواضح: «لو أنك فقط اطلعت على تقريري، لرأيت أنني قدمت تحذيرا منذ ثلاثة أشهر فقط بشأن مناسبة زيارة الدوق الكبير روموالد إلى باريس، وأرسل هذا التحذير تلغرافيا من هنا إلى الشرطة الفرنسية، كذلك ...»
قاطعه السيد فلاديمير بتجهم عابس: «صه، صه! لم تستفد الشرطة الفرنسية من تحذيرك. لا تزمجر هكذا. ما الذي تعنيه بحق الشيطان؟»
بنبرة فيها تواضع وفخر، اعتذر السيد فيرلوك عن نسيان نفسه. قال إن صوته - الذي اشتهر به لسنوات في الاجتماعات المفتوحة واجتماعات العمال في القاعات الكبيرة - ساهم في سمعته باعتباره رفيقا طيبا وجديرا بالثقة. ومن ثم بات وجها من وجوه نفعه. وكان سببا في الثقة في مبادئه. صرح السيد فيرلوك بنبرة تنطوي على رضا واضح: «لقد كنت دوما مستعدا لأن يحدثني القادة في لحظة حرجة.» وأضاف أنه لم تحدث ضجة لم يسمع فيها صوته؛ وفجأة قدم بيانا عمليا على قوله.
قال: «اسمح لي.» طأطأ رأسه ومن دون أن ينظر إلى أعلى، عبر الغرفة بسرعة وعلى نحو تعوزه الرشاقة إلى إحدى النوافذ ذات الطراز الفرنسي. فتح النافذة قليلا وكأنه أفسح المجال لدافع لا يمكن التحكم فيه. قفز السيد فلاديمير منذهلا من فوق الكرسي ذي الذراعين ونظر وراءه؛ وفي الأسفل عبر فناء السفارة، بعد البوابة المفتوحة بمسافة، كان يمكن رؤية شرطي عريض الظهر يراقب بتراخ عربة أطفال رائعة لطفل ثري تجر في فخامة عبر الميدان.
قال السيد فيرلوك بصوت لا يكاد يعلو عن الهمس: «شرطي!» وانطلق السيد فلاديمير ضاحكا لما رأى الشرطي يدور وكأن أحدا نخسه بآلة حادة. أغلق السيد فيرلوك النافذة بهدوء وعاد إلى وسط الغرفة.
صفحه نامشخص
اكتسى صوته بنبرة مبحوحة، قال: «بصوت مثل هذا، حظيت بالثقة بصورة طبيعية. وعرفت ما ينبغي قوله أيضا.»
أخذ السيد فلاديمير يعدل ربطة عنقه وراقبه في الزجاج فوق رف الموقد.
قال بازدراء: «يمكنني القول إنك تحفظ مصطلحات الثورات الاجتماعية عن ظهر قلب.» «الأصوات و... لم تدرس اللاتينية قط، أليس كذلك؟»
قال السيد فيرلوك متذمرا: «كلا. لم تتوقع أني أعرفها. أنا أنتمي إلى عامة الشعب. من يعرف اللاتينية؟ لا يعرفها سوى بضع مئات من المعاتيه ممن ليسوا قادرين على الاعتناء بأنفسهم.»
ظل السيد فلاديمير لمدة ثلاثين ثانية أخرى يدرس في المرآة شكل الرجل الضخم الجثة الذي يقف خلفه. وفي الوقت نفسه، كانت لديه ميزة رؤية وجهه هو، الحليق والمستدير، والمشرب بالحمرة، ذا الشفتين الرفيعتين الرقيقتين اللتين خلقتا من أجل التلفظ بتلك الدعابات الرقيقة التي جعلته مفضلا في أوساط الطبقات الاجتماعية العليا. بعد ذلك استدار، وتقدم في الغرفة بتصميم بالغ لدرجة أن طرف ربطة عنقه ذات الطراز القديم والغريب بدا مليئا بتهديدات لا توصف. كانت الحركة سريعة وعنيفة لدرجة أن السيد فيرلوك تراجع قليلا باستنكار.
بادره السد فلاديمير قائلا: «أها! تجرأت وأصبحت وقحا.» قال ذلك بنبرة تنم عن ذهول لا تصدر إلا من شخص غير إنجليزي، بل من غير أوروبي تماما، وكانت مباغتة حتى لخبرة السيد فيرلوك في الأحياء الفقيرة خارج البلاد. أضاف، بحزم شديد اللهجة في وجه السيد فيرلوك مباشرة: «تجرأت على ذلك! حسنا، سأتحدث بإنجليزية خالصة معك. الصوت لن يفيد، لن يفيدنا صوتك. لا نريد صوتا. نريد وقائع - وقائع غير عادية - عليك اللعنة.»
كان السيد فيرلوك ينظر إلى السجادة وهو يدافع عن نفسه بصوت أجش: «لا تحاول التأثير في بالأساليب التي تتبعها شعوب الشمال.» في هذه اللحظة، حول محاوره، وهو يبتسم بسخرية من فوق ربطة عنقه الجامدة البارزة، المحادثة إلى اللغة الفرنسية. «أنت تمنح نفسك لقب «عميل محرض». العمل الملائم «للعميل المحرض» هو التحريض. وبقدر ما أستطيع أن أحكم من سجلك المحفوظ هنا، أنت لم تفعل شيئا لتستحق الأموال التي حصلت عليها في السنوات الثلاث الأخيرة.»
قال فيرلوك متعجبا: «لم أفعل شيئا!» دون أن يحرك ساكنا ودون أن يرفع عينيه، ولكن بشعور صادق في نبرة صوته. وواصل كلامه: «لقد منعت عدة مرات ما كان يمكن أن ...»
قاطعه السيد فلاديمير وهو يرتمي على الكرسي ذي الذراعين: «يوجد مثل في هذا البلد يقول إن الوقاية خير من العلاج. هذا غباء بوجه عام. لا نهاية للوقاية. ولكنها سمة قائمة. إنهم يكرهون الحسم في هذا البلد. لا تكن إنجليزيا أكثر من اللازم. وفي هذه الحالة بعينها، لا تكن أحمق. الشر كائن هنا بالفعل . نحن لا نريد الوقاية، بل نريد العلاج.»
توقف برهة عن الكلام، واستدار إلى المكتب وأخذ يقلب في بعض الأوراق الموضوعة عليه، وتحدث بنبرة تشبه نبرة رجال الأعمال من دون أن ينظر إلى السيد فيرلوك. «تعرف، بالطبع، بأمر المؤتمر الدولي المنعقد في ميلان، أليس كذلك؟»
صفحه نامشخص
ألمح السيد فيرلوك بصوت خفيض إلى أنه معتاد على قراءة الصحف اليومية. وردا على سؤال آخر كانت إجابته أنه بالطبع يفهم ما يقرأ. عندئذ تمتم السيد فلاديمير، مبتسما ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى الوثائق التي كان لا يزال يتفحصها واحدة تلو الأخرى: «ما دامت غير مكتوبة باللاتينية، على ما أظن.»
أضاف السيد فيرلوك بتبلد: «أو الصينية.»
أسقط السيد فلاديمير بازدراء ورقة رمادية بها كتابة مطبوعة: «اممم، بعض انفعالات أصدقائك الثوريين مكتوبة بلغة «عامية» غير مفهومة وكأنها صينية ... ما معنى ترويسة المنشورات التي تحمل الحرفين
F. P.
ومطرقة وقلما وشعلتين متقاطعتين؟ ما معنى
F. P. ؟» اقترب السيد فيرلوك من المكتب الفخم.
شرح، وهو يقف متململا بجانب الكرسي ذي الذراعين: «يعني مستقبل طبقة العمال. إنها جماعة، ليست لا سلطوية من ناحية مبادئها، ولكنها منفتحة على جميع أطياف الآراء الثورية.» «هل أنت عضو فيها؟»
أخرج السيد فيرلوك أنفاسا متثاقلة وقال: «أحد نواب الرئيس.» ورفع الأمين العام الأول للسفارة رأسه ونظر إليه.
قال بنبرة حادة: «إذن يجب أن تخجل من نفسك. ألا تستطيع جماعتك فعل شيء آخر غير طباعة هذه الخطب الرنانة بنمط فظ على هذه الورقة القذرة؟ لماذا لا تفعلون شيئا؟ انظر هنا. أنا أتولى هذه المسألة الآن، وأقول لك بوضوح إنك يجب أن تعمل مقابل المال الذي تتقاضاه. انتهى زمن ستوت فارتنهايم العجوز الطيب. إن لم تعمل، فلن تتقاضى أجرا.»
أحس السيد فيرلوك بضعف غريب في ساقيه القويتين. تراجع إلى الوراء خطوة، وتمخط من أنفه بصوت عال.
صفحه نامشخص
في الحقيقة، كان مذهولا ومرعوبا. أطلت الشمس بأشعتها الذهبية لينقشع الضباب عن مدينة لندن وسطع بريق فاتر داخل غرفة الأمين العام الأول الخاصة؛ ووسط الصمت، سمع السيد فيرلوك من خلف زجاج النافذة الأزيز الخافت لطائر - أول طائر يسمع صوته هذا العام - مبشرا باقتراب الربيع على نحو أفضل من أي عدد من طيور السنونو. تسبب الصخب غير المجدي الذي أحدثه هذا الكائن الحي الصغير المفعم بالحيوية في تأثير مزعج على الرجل الضخم المهدد بسبب تراخيه.
في فترة الصمت تلك، صاغ السيد فلاديمير سلسلة من الملاحظات المهينة فيما يتعلق بوجه السيد فيرلوك وشكله. كان الرجل على نحو غير متوقع سوقيا، وثقيل الظل، وغبيا بوقاحة. بدا على نحو غير مألوف وكأنه رئيس عمال سباكة أتى كي يقدم فاتورته. كان الأمين العام الأول لدى السفارة قد شكل، من شطحاته العرضية في مجال الفكاهة الأمريكية، فكرة خاصة عن تلك الفئة من الميكانيكيين بأنهم تجسيد للكسل المعتمد على الاحتيال ولعدم الكفاءة.
كان هذا إذن هو العميل السري المشهور والموثوق فيه، كان سريا لدرجة أنه لم يشر إليه إلا بالرمز «دلتا» في المراسلات الأخيرة الرسمية، وشبه الرسمية، والسرية للبارون ستوت فارتنهايم؛ العميل المحتفى به «دلتا»، الذي كان لتحذيراته القدرة على تغيير مخططات وتواريخ رحلات الملوك، والأباطرة، والدوقات الكبار، وكانت أحيانا تتسبب في إلغائها تماما! هذا الشخص! وانغمس عقل السيد فلاديمير في نوبة ابتهاج هائلة ومثيرة للسخرية؛ لعل من أسبابها ذهوله، الذي اعتبره سذاجة منه، ولكنها كانت راجعة في أغلبها إلى سخرية من البارون ستوت فارتنهايم الذي اعتبرت وفاته خسارة للعالم. كان صاحب الفخامة الراحل، الذي كانت حظوته لدى صاحب الجلالة قد فرضته سفيرا على العديد من وزراء الخارجية الرافضين له، قد اشتهر طوال حياته بسذاجة تشاؤمية، باعثة على التطير. كان صاحب الفخامة يفكر في الثورة الاجتماعية طوال الوقت. تخيل نفسه دبلوماسيا منفصلا لديه امتياز خاص يتيح له مراقبة نهاية الدبلوماسية، وربما نهاية العالم، في ثورة ديمقراطية مروعة. كانت مراسلاته التنبؤية والكئيبة محط سخرية في وزارات الخارجية لسنوات. قيل إنه صرخ وهو على فراش الموت (عندما زاره صديقه وسيده صاحب الجلالة): «يا لأوروبا التعيسة! ستموتين جراء الفساد الأخلاقي الذي دب في أوصال أبنائك!» وحسب ظن السيد فلاديمير، فقد قدر له أن يقع ضحية أول وغد خسيس أتى، كان يفكر في ذلك وهو يبتسم ابتسامة غامضة في وجه السيد فيرلوك.
هتف فجأة: «يجب عليك أن تبجل ذكرى البارون ستوت فارتنهايم.»
عبرت ملامح وجه السيد فيرلوك المكتئبة عن انزعاج كئيب ومجهد.
قال: «اسمح لي أن أنوه لك بأنني أتيت إلى هنا لأنني استدعيت بناء على خطاب فيه أوامر قاطعة. لم آت إلى هنا سوى مرتين في الإحدى عشرة سنة الأخيرة، وبالتأكيد لم آت مطلقا في الساعة الحادية عشرة صباحا. ليس من الحكمة أن تستدعوني بهذه الطريقة. ثمة احتمال أن يراني أحد ما. وذلك أمر يجب أن يؤخذ موضع الجد من جانبي.»
هز السيد فلاديمير كتفيه.
أردف الآخر بحدة: «من شأن هذا ألا يجعلني مفيدا.»
تمتم السيد فلاديمير بشراسة ناعمة: «هذا شأنك. عندما لا تصبح لك فائدة، ستتوقف عن العمل. نعم. على الفور. هذا هو المختصر المفيد. سوف ...» عبس السيد فلاديمير، وأمسك عن الكلام لحظات وهو يبحث عن تعبير اصطلاحي كاف، وعلى الفور أشرق وجهه بابتسامة براقة وجميلة. وقال بنبرة فظة: «سوف تخنق.»
اضطر السيد فيرلوك مرة أخرى إلى أن يقاوم بكل ما أوتي من قوة إحساس الضعف الذي كان ينخر ساقيه الذي ألهم يوما ما شيطانا بائسا هذا التعبير الموفق: «سقط قلبي في قدمي.» مدركا لهذا الإحساس، رفع السيد فيرلوك رأسه بشجاعة.
صفحه نامشخص
لاحظ السيد فلاديمير تعبير التساؤل الثقيل ولكنه تقبله بهدوء تام.
قال بجدية: «ما نريده هو بث روح التوتر في المؤتمر المنعقد في ميلان. يبدو أن المداولات الجارية في المؤتمر بشأن التحرك الدولي لقمع الجريمة السياسية لا تؤتي ثمارها. إن إنجلترا متخلفة عن الركب. هذا البلد يثير اشمئزازي بسبب مراعاته العاطفية للحرية الفردية. إنه أمر لا يطاق أن تعتقد أن كل أصدقائك لم يأتوا إلا من أجل ...»
قاطعه السيد فيرلوك بصوت أجش: «بتلك الطريقة سأضعهم جميعا تحت ناظري.» «الأمر سيفوق كثيرا مجرد وضعهم جميعا تحت المراقبة. يجب جعل إنجلترا تذعن للأمر. إن البرجوازيين الحمقى في هذا البلد يجعلون من أنفسهم شركاء لنفس الأشخاص الذين يهدفون إلى إخراجهم من منازلهم كي يموتوا جوعا في الخنادق. كما أنه لا تزال لديهم القوة السياسية، وليتهم استطاعوا استغلالها من أجل الحفاظ على أنفسهم. أظن أن أفراد الطبقات الوسطى أغبياء، ألا تتفق معي؟»
أبدى السيد فيرلوك موافقته بصوت منخفض. «نعم، هم كذلك.» «ليس لديهم قدرة على التخيل. لقد أعماهم الغرور الأحمق. ما يحتاجونه الآن هو أن يدب بينهم ذعر يخدم مصالحنا. حانت اللحظة النفسية كي تهيئ أصدقاءك للعمل. لقد استدعيتك إلى هنا كي أوصل إليك فكرتي.»
ولقد وصل السيد فلاديمير فكرته من منطلق التكبر، إذ تصرف بازدراء وسخرية وفي الوقت نفسه أظهر قدرا من الجهل بالأهداف الحقيقية، والأفكار، والأساليب التي يتبعها عالم الثوار والتي ملأت عقل السيد فيرلوك الصامت بذعر دب في أوصاله. لقد خلط بين الأسباب والنتائج أكثر مما هو مطلوب؛ خلط بين أصحاب الدعوات البارزين ورماة القنابل المندفعين؛ افترض وجود تنظيم لا يمكن بطبيعة الأمور أن يكون موجودا في الواقع؛ تحدث في لحظة عن حزب ثوري اجتماعي وكأنه جيش نظامي بامتياز، حيث كلمة القادة هي العليا، وفي لحظة أخرى كأنه رابطة ضعيفة للغاية تضم مجموعة من قطاع الطرق البائسين الذين اتخذوا من مضايق الجبال مأوى لهم. في إحدى المرات فتح السيد فيرلوك فمه معترضا، ولكن أوقفه رفع اليد البيضاء الكبيرة الحسنة المظهر. وسرعان ما أصيب بالذهول لدرجة أنه لم يحاول الاحتجاج. كان يستمع في جمود نابع من فزع كان يشبه جمودا نابعا من انتباه شديد.
أردف السيد فلاديمير بهدوء: «سلسلة من الاعتداءات تنفذ هنا في هذا البلد؛ ليس فقط يخطط لها هنا - ذلك لن يجدي نفعا - إنهم لا يجدون ضيرا في ذلك. يمكن لأصدقائك أن يضرموا النار في نصف القارة دون أن يؤثر ذلك في الرأي العام هنا لصالح تشريع قمعي عالمي. لن يهتموا بما يحدث خارج باحتهم الخلفية.»
تنحنح السيد فيرلوك ولكن خذله قلبه ولم ينطق ببنت شفة.
تابع السيد فلاديمير وكأنه يلقي محاضرة علمية: «ليس من الضروري أن تكون هذه الاعتداءات دموية، ولكن يجب أن تثير الرعب في القلوب؛ أن تكون مؤثرة. دعها تكون موجهة نحو المباني على سبيل المثال. ما هو الصنم الذي يتبعه جميع البرجوازيون حاليا، يا سيد فيرلوك؟»
فتح السيد فيرلوك يديه وهز كتفيه قليلا.
علق السيد فلاديمير على هزة الكتف تلك قائلا: «أنت أكسل من أن تفكر. انتبه إلى ما أقوله. الصنم هذه الأيام ليس ملكا ولا دينا. لذا يجب عدم المساس بالقصر والكنيسة. هل تفهم ما أعنيه يا سيد فيرلوك؟»
صفحه نامشخص
وجد السيد فيرلوك متنفسا لانزعاجه والازدراء منه في محاولة للهزل.
فبادر قائلا: «فهمت تماما. ولكن ماذا عن السفارات؟ سلسلة هجمات على عدة سفارات.» ولكنه لم يستطع تحمل النظرات الباردة والمترقبة من الأمين العام الأول.
علق الآخر من دون اكتراث: «أرى أنك تتمتع بروح الدعابة. حسن إذن. هذه الروح قد تضفي الحيوية على مؤتمراتك الاشتراكية. ولكنها ليست مناسبة لتلك الغرفة. سيكون أكثر أمانا لك أن تتبع ما أقوله بحذافيره. بما أنك استدعيت لتقديم حقائق وليس قصصا لا أصل لها، فالأفضل لك أن تجني أموالك مما أتكبد عناء أن أشرحه لك. الصنم المقدس في هذه الأيام هو العلم. لماذا لا تجعل بعض أصدقائك يوجهون جهودهم نحو هذا الكيان السلطوي ذي الوجه المتخشب؟ أليس جزءا من هذه المؤسسات التي يجب إزالتها قبل أن يبزغ نجم حركة «مستقبل طبقة العمال»؟»
لم يتفوه السيد فيرلوك بكلمة. خشي أن يفتح فمه لئلا تفلت منه همهمة تذمر. «هذا ما ينبغي أن تحاول فعله. إن محاولة اغتيال ملك أو رئيس مثيرة بما فيه الكفاية بطريقة ما، ولكن ليس بالقدر الذي كانت عليه من قبل. لقد أصبحت ضمن المفهوم العام لوجود رؤساء الدول. لقد باتت أمرا شبه تقليدي، وبخاصة لكون العديد من الرؤساء قد اغتيلوا. والآن ماذا إذا نفذنا هجمة على، ولنقل، كنيسة مثلا؟ إنه حدث مروع للوهلة الأولى، بلا شك، ولكنه ليس مؤثرا كما قد يتبادر إلى ذهن شخص من العوام حسب ظني. بصرف النظر عن مدى التغيير الجذري والفوضوية في البداية، فسيضفي العديد من الحمقى الصبغة الدينية على هذا الاعتداء. وذلك من شأنه أن ينتقص من الأهمية المقلقة الخاصة التي نرغب في إضفائها على هذا الفعل. ربما تلقى أي محاولة قتل في مطعم أو مسرح بنفس الطريقة تفسيرا نابعا من عاطفة غير سياسية؛ كأن تعتبر سخطا من رجل جائع، أو عملا من أعمال الانتقام المجتمعي. كل هذه الأساليب استهلكت؛ ولم تعد تجدي نفعا مثل درس عملي في اللاسلطوية الثورية. كل صحيفة لديها عبارات جاهزة تقدم تفسيرات تنأى بتلك التعبيرات عن جوهرها. إنني على وشك أن أشرح لك فلسفة إلقاء القنابل من وجهة نظري؛ من وجهة النظر التي تتظاهر بأنك كنت تخدمها طيلة الإحدى عشرة سنة الماضية. سأحاول ألا أتحدث عن أشياء يستعصي عليك فهمها. سرعان ما تخمد مشاعر الطبقة التي تهاجمها. تبدو الممتلكات لهم أشياء غير قابلة للتدمير. لا يمكنك الاعتماد على مشاعرهم لفترة طويلة سواء كانت مشاعر شفقة أو خوف. من أجل أن يكون لتفجير أي تأثير في الرأي العام اليوم، لا بد أن يتجاوز نية الانتقام أو الإرهاب. لا بد أن يكون بدافع التدمير الخالص. لا بد ألا يكون لذلك، ولذلك وحده، دون أدنى شك في وجود أي مأرب آخر. أنتم أيها اللاسلطويون يجب أن توضحوا أنكم عازمون تماما على نسف النظام الاجتماعي بالكامل. لكن كيف ندخل تلك الفكرة السخيفة المروعة في رءوس الطبقات الوسطى حتى لا يكون ثمة شك؟ هذا هو السؤال. والإجابة هي بتوجيه ضرباتكم إلى شيء بعيد عن المشاعر العادية التي ألفتها الإنسانية. بالطبع، يمكن توجيهها إلى الفن. ربما يحدث انفجار في المعرض الوطني بعض الضجيج. ولكنه لن يكون خطيرا بالقدر الكافي. لم يكن الفن صنمهم قط. إن هذا أشبه بتكسير بضع نوافذ خلفية في منزل رجل ما؛ ولكن إذا أردت أن تجعله يرتعب حقا، فلا بد أن تحاول رفع السقف على الأقل. سيسمع بعض الصراخ بالطبع، ولكن من سيصرخ؟ الفنانون ... نقاد الفن ومن على شاكلتهم ... أفراد عديمو القيمة. لن يهتم أحد بما يقولونه. ولكن يوجد التعليم ... العلوم. أي معتوه له دخل يؤمن بذلك. إنه لا يعرف السبب، ولكنه يؤمن أن الأمر مهم بطريقة ما. إنه الصنم المقدس. كل الأساتذة البغيضين راديكاليون في صميم قلوبهم. دعهم يعرفون أنه لا بد من التخلص من كيانهم السلطوي العظيم أيضا، لإفساح المجال لجماعة مستقبل طبقة العمال. لا بد أن العواء الذي سيصدر من كل هؤلاء الأغبياء المفكرين سيساعد في تعزيز جهود مؤتمر ميلان. سيكتبون إلى الصحف. سيكون سخطهم فوق مستوى الشبهات، ولن تكون ثمة مصالح مادية على المحك بشكل علني، وسيوقظ غريزة الأنانية في الطبقة التي ستتأثر. إنهم يعتقدون أن العلم بطريقة ما هو مصدر ازدهارهم المادي. إنهم يعتقدون ذلك. وستؤثر الوحشية العبثية لذلك البيان العملي عليهم بشكل أعمق من تدمير شارع بأكمله ... أو مسرح ... يعج بأمثالهم. بشأن ذلك الحدث المذكور آنفا، يمكن دائما أن يقولوا: «أوه! إن هذا محض كراهية طبقية.» ولكن ما الذي يمكن أن يقوله المرء بشأن عمل وحشي مدمر يبلغ درجة من السخف بحيث لا يمكن فهمه أو تفسيره أو تصوره؛ في الحقيقة، إنه في الحقيقة فعل جنوني؟ إن الجنون وحده مرعب حقا، فلا أحد يستطيع تهدئته سواء بالتهديد أو الإقناع أو الرشاوى. علاوة على ذلك، فأنا رجل متحضر. لا أتصور أبدا أن أوجهك إلى تنظيم مجزرة محضة، حتى لو توقعت أن تؤتي أفضل النتائج. ولكني لا أتوقع من مجزرة النتيجة التي أريدها. القتل دائما عامل مشترك معنا. يكاد أن يكون حدثا مؤسسا. يجب أن يناهض البيان العملي التعليم ... والعلم. ولكن ليس كل علم سيفي بالغرض. يجب أن تجتمع في تلك الهجمة كل معاني الرعونة الصادمة للاستخفاف بالمقدسات الذي لا مبرر له. وبما أن التفجيرات هي وسيلتك للتعبير، فسيتضح حقا هل يمكن نسف علم الرياضيات أم لا. ولكن هذا مستحيل. أنا أحاول أن أعلمك؛ لقد شرحت لك الفلسفة العليا للمنفعة المرجوة منك، واقترحت عليك بعض الأطروحات التي تخدم أهدافنا. أما التطبيق العملي لما أمليته عليك فهو شأنك «أنت» أكثر من أي شخص آخر. ولكن منذ اللحظة التي تعهدت فيها بإجراء مقابلة معك، أوليت أيضا بعض الاهتمام للجانب العملي من السؤال. ما رأيك في أن توجه جهودك إلى علم الفلك؟»
لبعض الوقت، كان وقوف السيد فيرلوك بجانب الكرسي ذي الذراعين من دون حراك يشبه رجلا في حالة انهيار غيبوبة؛ نوع من عدم الإحساس السلبي الذي تقطعه نوبات تشنج طفيفة، تشنجات مثل التي تلاحظ على كلب أليف يحلم بكابوس وهو نائم فوق السجادة أمام المدفأة. وكرر الكلمة في زمجرة غير مستقر مثل زمجرة الكلب: «علم الفلك.»
لم يكن قد تعافى بعد بالكامل من حالة الحيرة التي نجمت عن الجهد الذي بذله لمتابعة كلام السيد فلاديمير القاطع السريع. لقد فاق قدرته على الاستيعاب. ولقد أثار غضبه. وزاد عدم التيقن من هذا الغضب. وفجأة اتضح له أن كل هذا كان مزحة متقنة. بدت نواجذ السيد فلاديمير وهو يبتسم، وظهرت الغمازتان في وجنتي وجهه المستدير المكتنز من فوق ربطة عنقه الجامدة البارزة. كانت المرأة المفضلة بين نساء سلك الاستخبارات قد حذت حذوه في مسلكه الذي أبداه في غرفة الاستقبال فيما يتعلق بإلقاء بعض النكات الطريفة. جلس متجها بجذعه إلى الأمام، ويداه البيضاوان مرفوعتان، وبدا وكأنه يمسك اقتراحه بلطف بين إصبعيه الإبهام والسبابة. «لا يمكن أن يوجد ما هو أفضل من ذلك. يجمع هذا الاعتداء بين أكبر قدر ممكن من الاحترام للإنسانية والعرض الأكثر مدعاة للقلق للحماقة الوحشية. وأنا أتحدى براعة الصحفيين في إقناع جمهورهم بأن أي عضو في طبقة العمال يمكن أن يكون لديه مظلمة شخصية ضد علم الفلك. لا يمكن الزج بالمجاعة نفسها إلى تلك الدائرة، ألا تتفق معي في الرأي؟ كما أن للأمر مزايا أخرى. لقد سمع العالم المتحضر أجمع عن بلدة جرينتش. إن ماسحي الأحذية في الطابق السفلي لمحطة تشيرينج كروس أنفسهم يعرفون شيئا عنها. أترى؟»
كانت ملامح السيد فلاديمير، المعروفة جيدا في أفضل المجتمعات بالدماثة الفكاهية، تنبض بالرضا الذاتي الساخر، الأمر الذي كان من شأنه أن يذهل النساء الأذكياء اللاتي استمتعن بذكائه بشكل رائع. أردف بابتسامة ازدراء: «نعم، لا بد أن يثير تفجير خط الطول الرئيسي أصوات عويل ناجمة عن الكراهية لذلك الفعل.»
تمتم السيد فيرلوك: «عمل صعب.» شاعرا أن هذا هو القول الوحيد المأمون.
تابع السيد فلاديمير بنبرة تهديد: «ما الأمر؟ أليست العصابة كلها في قبضتك؟ ألا يمكنك اختيار أفضل من في المجموعة نفسها؟ ذلك الإرهابي العجوز يوندت موجود بينهم. أراه يسير في بيكاديللي مرتديا قبعته الخضراء الواقية لرقبته من أشعة الشمس كل يوم تقريبا. وميكايليس - صاحب الإفراج المشروط - لا تقصد أن تقول إنك لا تعرف أين هو، أليس كذلك؟ لأنك إن لم تكن تعرف، فسأخبرك بمكانه. إذا كنت تتخيل أنك الوحيد المدرج ضمن قائمة تمويل العملاء السريين، فأنت مخطئ.»
كان هذا الافتراض من دون أي مسوغات مما دفع السيد فيرلوك إلى أن يحرك قدميه قليلا بدافع السأم. «وماذا عن عصابة منطقة لوزان بكاملها؟ ألم يندفعوا إلى هنا مع أول تلميح عن مؤتمر ميلان؟ هذا البلد غير معقول.»
صفحه نامشخص
قال السيد فيرلوك بطريقة غريزية: «هذا سيكلف الكثير من المال.»
رد السيد فلاديمير بلكنة إنجليزية أصيلة لدرجة تثير الدهشة: «هذا الادعاء لا أساس له.» «ستتقاضى راتبك كل شهر، ولن تحصل على أي أموال أخرى إلى أن يحدث شيء ما. وإذا لم يحدث شيء في القريب العاجل، فلن تحصل حتى على راتبك. ما هي وظيفتك الصورية؟ كيف تكسب عيشك في الظاهر؟»
أجاب السيد فيرلوك: «لدي متجر.» «متجر! أي نوع من المتاجر؟» «أدوات مكتبية، صحف. زوجتي ...»
قاطعه السيد فلاديمير بنبرة يتسم بها سكان آسيا الوسطى: «من؟»
رفع السيد فيرلوك صوته الأجش قليلا: «زوجتي. أنا متزوج.»
صاح الآخر بدهشة غير مفتعلة: «تلك حكاية بغيضة. متزوج! وتدعي أيضا أنك لا سلطوي! ما هذا الهراء المقيت؟ ولكني أفترض أنه مجرد أسلوب في الحديث. اللاسلطويون لا يتزوجون. إنه أمر معروف. لا يمكنهم ذلك. وإلا تعتبر ردة.»
تمتم السيد فيرلوك بصوته الأجش: «زوجتي ليست لا سلطوية. إضافة إلى ذلك، هذا ليس شأنك.»
قال السيد فلاديمير غاضبا: «بل هو كذلك. بدأت أقتنع بأنك لست أهلا مطلقا للعمل الذي أوكل إليك. عجبا ، لا بد أنك فقدت مصداقيتك بالكامل في عالمك بسبب زواجك. ألم يكن بوسعك أن تتدبر أمرك من دون زواج؟ هذا رباطك العفيف، أليس كذلك؟ بوجود ارتباطات من هذا القبيل، لا يرجى منك نفع.»
نفخ السيد فيرلوك خديه، ونفث الهواء بقوة، ولم يفعل أكثر من هذا. تحلى بالصبر. لم يتبق الكثير في هذه المحاكمة. فجأة، صار الأمين العام الأول فظا وموضوعيا وقاطعا جدا.
قال: «يمكنك الذهاب الآن. لا بد من تنفيذ اعتداء بالديناميت. أمهلك شهرا من أجل هذه المهمة. إن تجهيزات المؤتمر معلقة الآن. لا بد من حدوث شيء ما قبل استئنافه مرة أخرى، وإلا فستنقطع صلتك بنا.»
صفحه نامشخص
غير نبرة صوته مرة أخرى إلى نبرة توحي بتجرده من المبادئ.
قال بنبرة تعال وهو يشير بيده نحو الباب: «فكر في فلسفتي، يا سيد ... يا سيد ... فيرلوك. نفذ مهمة خط الطول الرئيسي. أنت لا تعرف الطبقات الوسطى كما أعرفها. لقد تلاشت أحاسيسهم. خط الطول الرئيسي. لا شيء أفضل، ولا شيء أسهل من ذلك، حسب ظني.»
كان قد نهض، وبينما كانت عبارات الدعابة والفكاهة تخرج من شفتيه الرفيعتين؛ راقب في الزجاج فوق رف الموقد السيد فيرلوك وهو يخرج من الغرفة متثاقل الخطى، ممسكا بقبعته وعصاه في يده. ثم أغلق الباب.
ظهر الخادم ذي السروال فجأة في الردهة، وأوصل السيد فيرلوك إلى مخرج مختلف وأخرجه من باب صغير في زاوية الفناء. تجاهل الحارس الذي يقف على البوابة خروجه تجاهلا تاما؛ ثم عاد السيد فيرلوك أدراجه من الطريق الذي قصده في الصباح وكأنه في حلم، حلم مزعج. كان هذا الانفصال عن العالم المادي كاملا لدرجة أنه مع أن السيد فيرلوك لم يسرع بإفراط في مشيته ببدنه الفاني في الشوارع، بدنه الذي سيكون من الوقاحة على نحو غير مبرر أن يرفض الخلود، وجد نفسه في الحال على أعتاب المتجر، وكأن ريحا عظيمة حملته على أجنحتها ونقلته من الغرب إلى الشرق. مشى إلى خلف منضدة البيع مباشرة وجلس على الكرسي الخشبي القابع خلفها. لم يظهر أحد كي يقطع عليه خلوته. حينئذ كان ستيفي، مرتديا مئزرا أخضر، عاكفا على كنس الطابق العلوي ونفض الغبار عنه، بعزم وإخلاص، وكأنه كان يلعب؛ وانتبهت السيدة فيرلوك وهي في المطبخ لما دق الجرس؛ ومن ثم أتت إلى الباب المزجج لغرفة المعيشة الخلفية وأزاحت الستارة قليلا ونظرت في المتجر ذي الإضاءة الخافتة. لما رأت زوجها جالسا في المتجر شارد الذهن لا يتحرك، وقبعته مائلة إلى الخلف فوق رأسه، عادت على الفور إلى الفرن. بعد ساعة أو أكثر، أخذت المئزر الأخضر من أخيها ستيفي، وأمرته أن يغسل يديه ووجهه بنبرة آمرة اعتادت أن تستخدمها معه طيلة خمس عشرة سنة أو نحو ذلك، في الواقع، منذ أن توقفت عن الاعتناء بغسل يدي الصبي ووجهه بنفسها. الآن، انشغلت قليلا عن غرف الطعام كي تتفقد ذلك الوجه وهاتين اليدين، إذ لما اقترب ستيفي من طاولة المطبخ، تقدم إليها كي ينال رضاها عن نظافة يديه ووجهه بمشية تنم عن ثقة تخفي بقايا قلق لم تنفك عنه. في السابق، كان غضب الأب هو العقاب الفعال على عدم الالتزام بتلك الطقوس، ولكن هدوء السيد فيرلوك في المنزل كان من شأنه أن يجعل أي ذكر للغضب أمرا لا يتصور حتى تجاه عصبية المسكين ستيفي. تكمن العلة من التأكيد على النظافة في أن السيد فيرلوك كان سيصيبه ألم وصدمة لا توصف لو لم تكن النظافة وقت الوجبات على الوجه الذي يريد. وجدت ويني بعد وفاة والدها عزاء كبيرا في شعورها بأنها لم تعد بحاجة إلى القلق بشأن المسكين ستيفي. لم تكن تحتمل أن ترى الفتى يتألم. كان هذا الأمر يصيبها بالجنون. وعندما كانت طفلة صغيرة، كثيرا ما كانت تواجه بعينين يتطاير منهما الشرر بائع الكحوليات المرخص دفاعا عن أخيها. أما الآن، فلا شيء في مظهر السيدة فيرلوك يمكن أن يدفع المرء إلى افتراض أنها كانت قادرة على أن تظهر عاطفتها يوما.
انتهت من غرف الطعام. وضعت الطاولة في غرفة المعيشة. مشت إلى أسفل درج السلم وصاحت تنادي «أمي!» ثم فتحت الباب المزجج المؤدي إلى المتجر، وقالت بهدوء «أدولف!» لم يبرح السيد فيرلوك مكانه؛ وبدا أنه لم يحرك أي طرف من أطرافه لمدة ساعة ونصف. صعد بتثاقل إلى الطابق العلوي وجلس لتناول العشاء مرتديا معطفه وقبعته، من دون أن ينبس ببنت شفة. لم يكن صمته في حد ذاته شيئا غير عادي على نحو مذهل في هذا المنزل، الكامن في ظلال شارع قذر لا تسقط عليه أشعة الشمس إلا نادرا، خلف المتجر خافت الضوء وبضاعته الرديئة سيئة السمعة. إلا أنه في ذلك اليوم كان صمت السيد فيرلوك عميقا بوضوح لدرجة أثارت استغراب المرأتين. جلستا صامتتين، تراقبان المسكين ستيفي، خشية أن يدخل في واحدة من نوبات ثرثرته. جلس في مواجهة السيد فيرلوك على الطاولة، وظل ساكنا وهادئا جدا، محملقا في الفراغ. لم تقلق المرأتان كثيرا بشأن محاولة الحيلولة دون نبذ ستيفي بأي شكل من الأشكال من طرف سيد المنزل. كان «ذلك الفتى»، كما كانتا تشيران إليه بهدوء فيما بينهما، مصدرا لذلك النوع من القلق منذ يوم ولادته تقريبا. تجلى الخزي الذي شعر به بائع الكحوليات المرخص لأنه ولد له صبي غريب الأطوار في نزعة إلى معاملة وحشية؛ إذ كان رجلا مرهف الأحاسيس، ومن ثم باتت آلامه ومعاناته كرجل وأب أمرا طبيعيا لا غرابة فيه. بعد ذلك، كان لا بد من منع ستيفي من أن يصبح مصدر إزعاج للمستأجرين غير المتزوجين، إذ كانوا هم أنفسهم قوما غريبي الأطوار، ويسهل أن يتضرروا من تصرفاته. وكان عليهما دوما أن تواجها القلق من مجرد وجوده. كانت رؤية دخول ابنها إلى إصلاحية الأحداث تطارد المرأة العجوز في غرفة الإفطار بالطابق الأرضي في المنزل المتهالك في بلجرافيا. اعتادت أن تقول لابنتها: «لو لم تتزوجي بهذا الرجل الطيب يا بنيتي، فلا أعرف ما الذي كان سيحل بهذا الصبي البائس.»
منح السيد فيرلوك قدرا كبيرا من التقدير لستيفي مثل القدر الذي قد يمنحه رجل غير مولع بالحيوانات للقط الذي تحبه زوجته؛ وكان هذا التقدير نفسه نابعا من طبيعة خيرة ودون تكلف. وباعتراف المرأتين كلتيهما ، كان العقل يقتضي عدم توقع ما هو أكثر من ذلك. كان ذلك كافيا لأن يكتسب السيد فيرلوك امتنان المرأة العجوز وتوقيرها. في الأيام الأولى، بدافع من تشككها بسبب تجارب الحياة الخالية من الأصدقاء، كانت أحيانا تسأل بقلق: «ألا تظنين، يا عزيزتي، أن السيد فيرلوك قد سئم من رؤية ستيفي في المكان؟» اعتادت ويني أن ترد على هذا السؤال بهز رأسها نفيا. ولكن في إحدى المرات، ردت بأسلوب سليط ومتجهم: «سيكون عليه أن يسأم مني أولا.» ساد صمت طويل. أسندت الأم قدميها على كرسي، وبدا أنها تحاول أن تفهم ما وراء هذه الإجابة، التي جعلها حسها الأنثوي تذهل منها تماما. لم تكن في الحقيقة قد فهمت السبب الذي دفع ويني للزواج من السيد فيرلوك. كان أمرا منطقيا جدا بالنسبة إليها، ومن الواضح أنه تبين أنه كان خيرا لها، ولكن ربما كانت ابنتها تأمل في العثور على شخص سنه أكثر ملاءمة لها، وهذا طبيعي. كان ثمة شاب يعتمد عليه، وهو الابن الوحيد لجزار يقطن في الشارع المجاور، وكان هذا الشاب يساعد والده في عمله، وتكرر أن خرجت ويني معه من دون أن تخفي سرورها بذلك. لم يكن خافيا اعتماده على أبيه في كسب عيشه؛ ولكن العمل كان يدر دخلا جيدا، وكان مستقبله مبشرا. اصطحب ابنتها إلى المسرح في عدة أمسيات. ثم ما إن بدأت تخشى أن تسمع بأمر خطبتهما (إذ ما الذي كان يمكن أن تفعله في هذا المنزل الكبير بمفردها، وستيفي في رعايتها)، انتهت هذه العلاقة الرومانسية فجأة، وبدأ الضجر يكسو وجه ويني. ولكن عندما أتت العناية الإلهية بالسيد فيرلوك وشغل غرفة النوم الأمامية في الطابق الأول، انقطع سيل الأسئلة بشأن الجزار الشاب. كان من الواضح أن الأمر من عمل العناية الإلهية.
الفصل الثالث
«... كل أشكال المثالية تزيد من بؤس الحياة. ولإضفاء الجمال على الحياة، فينبغي أن تزيل عنها سمة التعقيد، فالتعقيد يدمر الحياة. دع هذا الأمر لدعاة الأخلاق يا بني. التاريخ يصنعه الرجال، ولكنهم لا يصنعونه في أدمغتهم. تلعب الأفكار التي تتولد في وعيهم دورا ضئيلا في مسيرة الأحداث. إن التاريخ يكتبه ويسطره أصحاب العمل والإنتاج، بدافع من الظروف الاقتصادية. الرأسمالية صنعت الاشتراكية، والقوانين التي صنعتها الرأسمالية لحماية الممتلكات هي المسئولة عن اللاسلطوية. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالشكل الذي سيتخذه النظام الاجتماعي في المستقبل. ثم ما الداعي للانغماس في الأوهام التنبؤية؟ أفضل ما يمكنها فعله هو تفسير ما يجول في عقل المتنبئ، ولا يمكن أن يكون لها قيمة موضوعية. دع تلك التسلية لدعاة الأخلاق يا بني.»
كان ميكايليس - صاحب الإفراج المشروط - يتحدث بصوت معتدل، صوت فيه أزيز وكأن صدره مثقل ومرهق بسبب طبقة الدهون التي عليه. كان قد خرج من سجن تتوفر به جميع مقومات النظافة والصحة مستديرا مثل حوض استحمام، ببطن ضخمة ووجنتين مكتنزتين ضمن بشرة شاحبة، تكاد تصبح شفافة من بياضها، كما لو كان خدام المجتمع الغاضب ظلوا يعلفونه بأطعمة تسمين طيلة خمس عشرة سنة في زنزانة رطبة ومنعدمة الإضاءة. ومنذ ذلك الحين، لم يتمكن من إنقاص وزنه ولو بمقدار أونصة واحدة.
قيل إنه على مدى ثلاثة مواسم كانت سيدة عجوز ثرية ترسله للعلاج في مارينباد، وهناك كاد يشارك العامة فضولهم ذات مرة بشأن ملك متوج، ولكن الشرطة في تلك المرة أمرته بأن يغادر في غضون اثنتي عشرة ساعة. استمر عذابه الشديد بحرمانه من الوصول إلى المياه الشافية. ولكنه توقف عن العمل الآن.
صفحه نامشخص
من دون مفصل ظاهر في كوعه، الذي كان أشبه بانحناء في أحد أطراف دمية، منطرحا على ظهر كرسي، انحنى إلى الأمام قليلا فوق فخذيه القصيرين والضخمين ليبصق في موقد المدفأة.
أضاف من دون تأكيد: «نعم! لقد توفر لدي الوقت للتفكير في الأمور قليلا. منحني المجتمع الكثير من الوقت للتأمل.»
على الجانب الآخر من المدفأة، على كرسي بذراعين مكسو بشعر الخيل كانت والدة السيدة فيرلوك تحظى بامتياز الجلوس عليه عادة، أطلق كارل يوندت ضحكة أخفت وراءها عبوسا وتكشيرة خافتة وغامضة من فم خال من الأسنان. كان الإرهابي - كما أطلق على نفسه - عجوزا وأصلع وله خصلة من شعر أبيض مدلاة من ذقنه. تكشف تعبير غير عادي من حقد خفي في عينيه المطفأتين. عندما نهض متألما رسم اندفاع مقدم يد نحيفة تتلمس طريقها ومشوهة بتورمات النقرس صورة جهد قاتل محتضر يستجمع كل ما تبقى لديه من قوة من أجل طعنة أخيرة. اتكأ على عصا سميكة، ارتعشت تحت يده الأخرى.
تكلم بشراسة: «لقد حلمت دوما بعصبة من رجال لا يحيدون عن عزمهم في نبذ كل تورع في اختيار الوسائل التي يتبعونها، أقوياء لدرجة أن يطلقوا على أنفسهم صراحة اسم «المدمرين»، ومتحررون من وصمة ذلك التشاؤم المستكين الذي يفسد العالم. لا يرحمون أي شيء على وجه الأرض - ولا حتى أنفسهم - ويجندون الموت من أجل الخير وكل ما يخدم البشرية، هذا ما أحببت أن أراه.»
اهتز رأسه الأصلع الصغير، مضفيا اهتزازا مضحكا على خصلة العثنون البيضاء. كان من شأن نطقه أن يكاد يكون غير مفهوم على الإطلاق لأي شخص غريب. لم يسعف حماسه المنهك - الذي يشبه في قوته الواهنة إثارة شهواني عجوز - حلق جاف وفم خال من الأسنان بدا وكأنه يمسك بطرف لسانه. أطلق السيد فيرلوك، الذي كان يجلس بثبات في ركن الأريكة في الطرف الآخر من الغرفة، همهمتين تنمان عن موافقته من صميم قلبه.
أدار الإرهابي المسن رأسه ببطء على رقبته الضامرة من جانب إلى آخر. «ولم أتمكن من أن أجمع ما يصل عدده إلى ثلاثة رجال من هذه النوعية. لقد اكتفيت من تشاؤمكم العفن.» أضاف مزمجرا في وجه ميكايليس، الذي فصل ساقيه المكتنزتين باللحم، اللتين كانتا تشبهان وسادتين أسطوانيتين، بعضهما عن بعض وزلق قدميه فجأة تحت كرسيه علامة على سخطه.
هو متشائم! أخرق! صاح قائلا إن هذه التهمة كانت شائنة. كان بعيدا للغاية عن التشاؤم لدرجة أنه رأى بالفعل أنه من المنطقي، ومما لا مفر منه، أن تكون نهاية كل الملكيات الخاصة أمرا وشيكا بمجرد ازدياد الخبث المتأصل فيها. لم يكن على أصحاب الممتلكات مواجهة طبقة البروليتاريا التي تيقظت فحسب، بل كان عليهم أن يتقاتلوا فيما بينهم. أجل . صراع، وحرب، كان ذلك هو حال الملكية الخاصة. كانت حربا مهلكة. آه! إنه لم يعتمد على الحماس العاطفي للحفاظ على إيمانه، فلا مكان للتصريحات ولا مكان للغضب ولا مكان للتلويح بأعلام حمراء قانية أو شموس متوهجة ترمز إلى الانتقام فوق أفق مجتمع محكوم عليه بالهلاك. ليس هو! كان يتفاخر بأن التفكير المتجرد من المشاعر هو أساس تفاؤله. نعم، تفاؤله ...
توقف أزيز تنفسه المرهق، ثم، بعد لهثة أو اثنتين، أضاف قائلا: «أتعتقدون أنني، لو لم أكن متفائلا كما هو حالي، ما كنت سأجد وسيلة لجز عنقي طيلة خمس عشرة سنة؟ وفي الحالة الأخيرة، كان يمكنني دوما أن أضرب رأسي في جدران زنزانتي.»
سلب ضيق تنفسه صوته من الحماس والحيوية؛ وتدلت وجنتاه الضخمتان الشاحبتان مثل كيسين ممتلئين، بلا حركة، وبلا اهتزاز؛ ولكن في عينيه الزرقاوين، اللتين ضاقتا وكأنهما تحدقان فيما أمامهما، كانت توجد نفس النظرة التي كانت تنم عن ذكاء واثق، وعن شيء من الجنون في ثباتها، لا بد أنها كذلك وقت أن قبع المتفائل مفكرا في زنزانته ليلا. ظل كارل يوندت واقفا أمامه، ملقيا إحدى جانبي معطفه الهافلوك الباهت المخضر خلف كتفه بعجرفة. أمام المدفأة، جلس الرفيق أوسيبون، طالب الطب السابق، والكاتب الأساسي لمنشورات حركة مستقبل طبقة العمال، مادا ساقيه القويتين، وأبقى نعل حذائه متجها نحو لهب موقد المدفأة. اكتست رأسه بأجمة من شعر أصفر مجعد فوق وجهه الأحمر المليء بالنمش، الذي ضم أنفا أفطس وفما بارزا تقولبا في قالب يشبه تقريبا ملامح الزنوج. كانت عيناه اللتان تشبهان اللوزتين تتألقان بهدوء فوق عظام الوجنتين المرتفعة. ارتدى قميصا خفيفا رماديا، وتدلت نهايتا ربطة عنق حريرية سوداء إلى أسفل صدر معطفه المزرر المنسوج من السيرج؛ وإذ استقر رأسه على ظهر كرسيه، برزت حنجرته كثيرا، ورفع إلى شفتيه سيجارة وضعها في مبسم خشبي طويل، وأخذ ينفث نفثات من الدخان مباشرة نحو السقف.
تابع ميكايليس فكرته - فكرة عزلته الفردية - الفكرة التي كانت منحة أسره وظلت تتنامى مثل إيمان تكشف في رؤى. تحدث إلى نفسه، غير مبال بتعاطف مستمعيه أو عدائيتهم، وغير مبال حقا لوجودهم، وكان ذلك نابعا من عادة التفكير بصوت عال التي كان قد اكتسبها في عزلة جدران زنزانته الأربعة المطلية باللون الأبيض، وفي الصمت الموحش الذي كان يخيم على كومة الطوب الصماء القريبة من نهر، يفوح منها الشؤم والقبح كأنها مستودع جنائزي ضخم لجثث الذين أغرقهم المجتمع.
صفحه نامشخص
لم يكن جيدا في المناقشات، ليس بسبب أن إيمانه كان يمكن أن يتزعزع بأي قدر من الحجج، ولكن لأن مجرد سماع صوت آخر كان يربكه إرباكا شديدا، مشتتا أفكاره في الحال؛ هذه الأفكار التي ظلت لسنوات كثيرة في عزلة عقلية أكثر جدبا من صحراء قاحلة، بلا أي صوت لأي أحد يقاوم تلك الأفكار أو يعلق عليها أو يوافق عليها.
لم يقاطعه أحد حينئذ، وأعاد الاعتراف بإيمانه، الذي كان يسيطر عليه سيطرة طاغية وتامة كأنه نعمة أنعم بها عليه؛ إنه سر القدر الذي اكتشف في الجانب المادي من الحياة؛ الحالة الاقتصادية للعالم المسئولة عن الماضي وعن صياغة المستقبل؛ مصدر جميع أحداث التاريخ، وجميع الأفكار، المرشدة للتطور العقلي للبشر والدوافع الحقيقية لعاطفتهم ...
قطعت ضحكة قاسية أطلقها الرفيق أوسيبون الخطبة العصماء لصاحب الإفراج المشروط وتلعثم لسانه، وظهر تردد مذهول في عينيه المهيبتين قليلا. أغمضهما ببطء للحظة، وكأنه يستجمع شتات أفكاره. خيم صمت على المكان؛ ولكن بسبب مصباحي الغاز فوق المنضدة وتوهج موقد المدفأة أصبحت الحرارة في غرفة المعيشة خلف متجر السيد فيرلوك لا تطاق. نهض السيد فيرلوك من فوق الأريكة متململا، وفتح الباب المؤدي إلى المطبخ لإدخال مزيد من الهواء، فظهر ستيفي البريء جالسا في اعتدال تام وهدوء شديد على مائدة من خشب الصنوبر، يرسم دوائر، دوائر، دوائر؛ دوائر لا حصر لها، متحدة المركز؛ وغير متحدة المركز؛ دوامة متداخلة من الدوائر، أوحت كثرة تشابكها في منحنيات، واتحادها في الشكل، والتشويش الذي يحدثه تقاطع الخطوط، عن فوضى كونية، رمزية فن مجنون يسعى إلى المحال. لم يحول الفنان رأسه مطلقا؛ وفي مثابرته التامة في عمله على المهمة كان ظهره يرتعش، وبدت رقبته الرفيعة، الغارقة في تجويف عميق في قاعدة الجمجمة، متهيئة لأن تنكسر.
بعدما أصدر السيد فيرلوك صوت نخير استنكارا للمفاجأة، عاد إلى الأريكة. نهض ألكسندر أوسيبون، الذي بدا طويل القامة في بذلته الزرقاء الرثة من نسيج السيرج تحت السقف المنخفض، ونفض عن نفسه تصلب جمود طويل، ومشى إلى المطبخ (المنخفض بمقدار درجتي سلم) ليلقي نظرة من فوق كتف ستيفي. عاد وقال بنبرة فيها تنبؤ: «جيد جدا. مميز للغاية، نموذجي تماما.»
تساءل السيد فيرلوك بتذمر: «ماذا تقصد بجيد جدا؟» بعدما عاد للاستقرار في ركن الأريكة. فسر الآخر ما يقصده بلا مبالاة وبشيء من التعالي وهو يدير رأسه ناحية المطبخ. «نموذجي لهذا الشكل من الانحطاط، أقصد هذه الرسومات.»
تمتم السيد فيرلوك: «تقول إن هذا الفتى منحل، هل هذا ما تقصده؟»
التفت الرفيق ألكسندر أوسيبون - الملقب بالطبيب؛ إذ كان يدرس الطب ولكنه لم يكمل دراسته؛ وبعد ذلك ظل يتجول ويلقي محاضرات لدى الجمعيات المهتمة بشئون العمال عن الأنماط الاشتراكية في الصحة؛ وكذلك ألف دراسة شهيرة شبه طبية (في شكل كتيب رخيص ولكن الشرطة صادرته على الفور) بعنوان «الرذائل التي تأكل الطبقات المتوسطة»؛ وعمل مفوضا خاصا لدى «اللجنة الحمراء» الغامضة نوعا ما، جنبا إلى جنب مع كارل يوندت وميكايليس لعمل الدعاية الأدبية - إلى هذا المتردد الغامض على سفارتين على الأقل ونظر إليه نظرة استعلاء لا تحتمل لا تنم إلا عن أنه قامة في علم يقدمه لعامة الناس. «هذا ما يمكن أن يطلق عليه علميا. إنه نموذج جيد جدا أيضا، من ذلك الانحطاط. يكفي النظر إلى شحمتي أذنيه. إذا قرأت ما كتبه لومبروزو ...»
استمر السيد فيرلوك - متقلب المزاج والذي كان متمددا شاغلا جزءا كبيرا من الأريكة - في طأطأة رأسه ناظرا إلى أزرار صدريته؛ ولكن وجنتيه توردتا بعض الشيء. مؤخرا، كان أبسط اشتقاق من كلمة علم (مصطلح في حد ذاته ليس مسيئا وليس له معنى محدد) له قدرة غريبة على استحضار صورة ذهنية عدائية تماما للسيد فلاديمير، بشحمه ولحمه، بوضوح شبه خارق. وهذه الظاهرة - التي تستحق بإنصاف أن تصنف ضمن عجائب العلم - استحثت في السيد فيرلوك حالة عاطفية من الرهبة والسخط عادة ما كانت تظهر في صورة سباب عنيف. ولكنه لم يتفوه بكلمة. كان من تكلم هو كارل يوندت، الذي كان عنيدا حتى النفس الأخير. «لومبروزو هذا أحمق.»
قابل الرفيق أوسيبون صدمة هذا التجديف بنظرة مخيفة خالية من التعبير. وتمتم الآخر - بعينيه غير اللامعتين ذواتي الرموش الطويلة أسفل الجبهة الكبيرة البارزة - وهو يمسك طرف لسانه بين شفتيه في كل كلمة وكأنه يمضغها غاضبا: «هل رأيتم من قبل أبله كهذا؟ من وجهة نظره أن المجرم هو السجين. أمر بسيط، أليس كذلك؟ ماذا عن أولئك الذين قمعوه هناك، أجبروه على الدخول إلى هناك؟ بالضبط. أجبروه على الدخول إلى هناك. وما هي الجريمة؟ هل يعلم، هذا الأبله الذي شق طريقه في هذا العالم من الحمقى المتخمين عن طريق النظر إلى آذان وأسنان الكثير من الأشرار البؤساء العديمي الحظ؟ هل الأسنان والآذان هي ما يوسم به المجرم؟ هل هي كذلك حقا؟ وماذا عن القانون الذي يسمه على نحو أفضل، أداة الوسم الجميلة التي اخترعها المتخمون كي يقوا أنفسهم من الجوعى؟ مرات وضع الأداة المتقدة على جلودهم البغيضة؛ أليس كذلك؟ ألا يمكنك أن تشم وتسمع من هنا صوت احتراق جلد الناس السميك وطشيشه؟ هكذا يصنع المجرمون ليكتب عنهم أتباع نظرية لومبروزو كتاباتهم السخيفة.»
ارتعش مقبض عصاه وساقاه انفعالا، بينما ظل جذعه، المغطى بجناحي معطفه الهافلوك، ثابتا على موقف التحدي الذي يتخذه دوما. بدا وكأنه يستنشق الهواء الملوث بقسوة المجتمع، ويجهد أذنه لسماع أصواته البشعة. كان ثمة قوة غير عادية من الإيحاء في هذا الموقف. كان المعلم المخضرم في حروب الديناميت ممثلا عظيما في زمنه، ممثلا على المنصات وفي التجمعات السرية وفي اللقاءات الخاصة. لم يسبق للإرهابي الشهير قط في حياته أن رفع شخصيا ولو حتى إصبعه البنصر في مواجهة الصرح الاجتماعي. لم يكن رجل أفعال؛ لم يكن حتى خطيبا مفوها يكتسح الحشود وسط الضجيج الصاخب وفورة الحماس الكبير. وبنية ماكرة إلى حد كبير، لعب دور محرض خبيث ووقح ذي دوافع خبيثة كامنة في الحسد الأعمى والتكبر الساخط النابع من الجهل، في المعاناة وبؤس الفقر، في جميع الأوهام المتفائلة والنبيلة النابعة من الغضب والشفقة والثورة. كان ظل موهبته الشريرة لا يزال ملتصقا به مثل رائحة مخدر مميت في قارورة سم قديمة، فارغة الآن، وعديمة الجدوى، وجاهزة للتخلص منها فوق كومة قمامة الأشياء التي انقضت مدة صلاحيتها.
صفحه نامشخص