وكان يصغى لها ساعات متواليات، وأحيانا عندما يمل اللعب مع الأطفال الآخرين - يحدثهم أحد شيوخ القرية في لغة عجيبة عن المحور الأكبر للدنيا، وعن الصراع الطويل بين اليد اليمنى واليد اليسرى، وبين الرطوبة والجفاف، وعن أونا ولونا الذي أوجد حوله وهو يفكر في أثناء الليل ضبابا كثيفا، ومن هذا الضباب الكثيف خلق العالم بأسره، ويحدثهم عن الأرض أما والسماء أبا، وعن أهايوتا ومارسليما وهما توءما الحرب والصدفة، وعن يسوع ويوكونج، وعن مريم واتساناتلهى، وهي المرأة التي تستطيع أن ترد الشباب إلى نفسها، وعن الحجر الأسود عند لاجونا والنسر الأكبر وسيدتنا الأكومية وكلها قصص عجيبة، يزيدها عجبا أنها تحكي بتلك اللغة الغريبة، فلا يفهمها تمام الفهم، وحينما يستلقي في الفراش يفكر في السماء وفي لندن وفي سيدتنا الأكومية، وفي الصفوف العديدة من الأطفال المحفوظين في القوارير النظيفة، وفي يسوع وهو يطير ولندا وهي تطير، وفي المدير الأكبر لمعامل التفريخ وفي أوناولونا.
وجاء لزيارة لندا رجال عديدون، وبدأ الصبية يشيرون إليها بأصابعهم، وفي لغتهم الغربية قالوا إن لندا امرأة سيئة، ونبذوها بشتائم لم يفهم لها معنى، ولكنه أدرك أنها شتائم، وأخذوا ذات يوم يرددون أغنية بشأنها، فقذفهم بالحجارة، وقذفوه، فجرح خده حجر حاد وتدفق الدم وتلوث به.
وعلمته لندا القراءة، ورسمت على الحائط صورا بقطعة من الفحم، رسمت حيوانا قابعا وطفلا داخل قارورة، ثم سطرت بعض الحروف، وكتبت «القط فوق الحصير، والطفل في الإناء»، وتعلم الولد بسرعة وسهولة ، ولما استطاع أن يقرأ كل الكلمات التي كتبتها على الحائط، فتحت لندا صندوقها الكبير الخشبي وأخرجت من تحت السراويل الصغيرة العجيبة الحمراء، التي لم تلبسها قط كتابا صغيرا هزيلا، ولطالما وقعت عيناه على هذا الكتاب من قبل، وكانت تقول له: «تستطيع أن تقرأه عندما تكبر.» وها هو ذا الآن كبير، وبنفسه فخور، ولكنها تقول له: «أخشى ألا تجده شيقا.» ثم تنهدت وقالت: «ولكن ليس عندي سواه، آه لو شهدت آلات القراءة الجميلة التي كانت لدينا في لندن!» ثم بدأ يقرأ: «تكييف الأجنة الكيمائي والبكتريولوجي، إشارات عملية لعمال مخزن الأجنة من النوع «ب»»، واستغرق ربع ساعة في قراءة العنوان وحده، ثم ألقى الكتاب على الأرض وقال: «ما أشنع هذا الكتاب!» ثم بدأ يصيح.
وما برح الصبية ينشدون نشيدهم المريع عن لندا، وكانوا كذلك أحيانا يسخرون من ثيابه الرثة، وكانت لندا لا تعرف كيف تصلح ملابسه إذا تمزقت، وتقول له: «إن الناس في العالم الآخر ينبذون الملابس ذات الخروق ويستبدلون بها الجديد.» واعتاد الصبية أن يسخروا منه بقولهم: «الخرق البالية، الخرق البالية.» ويقوله لنفسه: «ولكني أستطيع أن أقرأ وهم لا يستطيعون، بل إنهم لا يعرفون ما القراءة.» وكان من اليسير عليه - إذا أنعم الفكر في القراءة - أن يتظاهر بعدم الاهتمام بسخريتهم منه، فطلب إلى لندا أن تعيد إليه الكتاب.
وكلما تمادى الصبية في الإشارة إليه وفي الغناء أمعن في القراءة، وسرعان ما أتقن قراءة الكلمات كلها حتى أطولها، ولكنه سأل لندا عن معناها، غير أن المعنى لم يتضح له حتى حينما كانت لندا تستطيع الإجابة، وكانت في الجملة تعجز عن الإجابة بتاتا.
سألها: «ما هي المواد الكيميائية.»
قالت: «هي مواد مثل أملاح المغنزيوم، والكحول الذي يجعل طبقة «ء» و«ه» صغيرة متأخرة، وكربونات الكلسيوم للعظام، وما شابه ذلك.» - «ولكن كيف تصنعون المواد الكيمائية يا لندا؟ ومن أين تأتي؟» - «لست أعرف، إنها تستخرج من القوارير، وعندما تفرغ القوارير ترسلها إلى مخزن المواد الكيمائية للمزيد، وأحسب أن الموظفين في المخزن هم الذين يصنعون هذه المواد الكيمائية، أو ربما يطلب موظفو المخزن هذه المواد من المصنع. لست أعرف، ولم أشتغل بالكيمياء يوما ما، ولقد كان عملي دائما يختص بالأجنة.»
وكذلك كان الأمر في كل سؤال وجهه إليها، وكأن لندا لم تعرف شيئا، وكان عند شيوخ القرية إجابات أشد من ذلك قطعا. - «بذور الناس وبذور المخلوقات جميعا، وبذور الشمس وبذور الأرض وبذور السماء - كل ذلك خلقه أو ناولونا من ضباب التكاثر، والعالم أربعة أرحام، وقد وضع البذور في أحط هذه الأرحام الأربعة، وبدأت البذور تنمو تدريجا ...»
وذات يوم (حسبه جون فيما بعد وعلم أنه لا بد أن يكون عقب ميلاده الثاني عشر)، عاد إلى البيت وألفى كتابا لم يره من قبل ملقى على الأرض في غرفة النوم، وكان كتابا غليظا عليه سيما القدم، وقد أكلت الفيران جلده، وتفككت بعض صفحاته وتغضنت، فالتقط الكتاب ونظر إلى صفحة العنوان، وقرأ عليها ما يأتي: «مجموعة مسرحيات وليم شيكسبير».
وكانت لندا مستلقية على فراشها ترشف من الكأس شراب المسكال ذا الرائحة الكريهة الشنيع، قالت: «لقد أحضره بوبي.» وكان صوتها غليظا خشنا كأنه صوت شخص آخر، ثم قالت: «كان هذا الكتاب ملقى في أحد صناديق انتلوب كيفا، والمفروض أنه لبث هناك مئات السنين، وأحسب ذلك صحيحا؛ لأني تصفحته وبدا لي كأنه ملئ بالخرافات، إنه كتاب همجي، ولكنه يصلح لتدريبك على القراءة.» ثم تناولت من الكأس الجرعة الأخيرة، وألقتها على الأرض إلى جانب الفراش، وانقلبت على جنبها، وشهقت مرة أو مرتين ثم استغرقت في النوم، وفتح الغلام الكتاب حيثما اتفق وقرأ فيه ما يلي: «عجبا كيف يعيش المرء في عرق كريه على فراش رث، يدب فيه الفساد، وكيف ينعم ويعشق في بيت قذر كبيوت الخنازير ...»
صفحه نامشخص