وهزت هذه الكلمات برنارد هزة عنيفة، فتحرك حركة قوية لا تليق بالمقام، وقال: «هل تنفونني في إحدى الجزر؟» ووثب من مكانه وعبر الغرفة عدوا، ثم وقف أمام المراقب ملوحا بيديه وقال: «إنكم لا تستطيعون إبعادي، إني لم أفعل شيئا، إنما هما الآخران، وأقسم أنهما هما.» وأشار إلى هلمهلتز والهمجي متهما إياهما، وقال: «أرجو ألا تبعث بي إلى أيسلنده، وأعدك أن أفعل ما ينبغي، أعطني فرصة أخرى، أرجو أن تهيئ لي فرصة أخرى.» وانهمر الدمع من عينيه، ثم قال وهو يجهش بالبكاء: «أؤكد لك أنه خطؤها، لا تبعدني في أيسلنده، أتوسل إلى سيادتك، وأرجو ...» وأصابته نوبة من الشعور بالذلة، فارتمى على ركبتيه أمام المراقب، وحاول مصطفى مند أن ينهضه، ولكن برنارد أصر على تذلله، وتدفق منه تيار جارف من الكلام، فاضطر المراقب في نهاية الأمر إلى أن يدق الجرس مستدعيا سكرتيره الرابع.
وأمره قائلا: «أحضر ثلاثة رجال وخذ المستر ماركس إلى حجرة للنوم، وأعطه كمية كافية من بخار السوما، ثم ضعه فوق السرير واتركه وحده.»
وخرج السكرتير الثالث ثم عاد بثلاثة من مشاة التوائم يرتدون الزي الأخضر، وحمل برنارد إلى الخارج، وهو لا يزال يصيح ويبكي.
وقال المراقب عندما كان الباب يغلق: «إن الرائي يحسب أنه سوف يقتل، في حين أنه - لو كان لديه ذرة من عقل - كان يجب أن يدرك أن عقوبته هي في حقيقتها مكافأة حسنة، إنه مبعوث إلى جزيرة، أي إنه مبعوث إلى مكان يلتقي فيه مع أمتع من تجد في هذا العالم من رجال ونساء - كل من أحس بفرديته لسبب ما إلى حد أنه لم يستطع أن ينسجم مع حياة الجماعة، كل من لم يرض بالتقاليد، ومن كانت له آراء مستقلة خاصة، أو بعبارة أخرى كل فرد له شخصية خاصة، إني لأغبطك يا مستر واطسن.»
فضحك هلمهلتز وقال: «وإذن فلماذا لا تقطن أنت إحدى الجزائر؟»
فأجابه المراقب قائلا: «لأني آثرت ذلك في النهاية، خيرت بين أن أبعث إلى جزيرة ما، حيث كنت أستطيع أن أواصل علومي البحتة، أو أن أنضم إلى مجلس المراقبين، مع الأمل في أن أشغل وظيفة المراقب في الوقت الملائم، فاخترت ذلك ونزلت عن العلوم.» وصمت برهة ثم قال: «وإني لأشعر أحيانا بالأسف على العلوم، فإن السعادة سيد شديد القسوة - وبخاصة سعادة الآخرين، إنها أشد من الحقيقة قسوة إذا لم يكيف المرء على قبولها بغير سؤال.» ثم تنهد، وعاد إلى صمته، ثم استمر في حديثه بنغمة مرتفعة، قال: «ولكن الواجب هو الواجب، ولا يستطيع المرء أن يتبع الطريق التي يؤثرها، إنني أهتم بالحقيقة وأغرم بالعلم، لكن الحقيقة تهدد العالم، والعلم خطر على الجمهور، وخطره لا يقل عن نفعه - لقد أعطانا أكثر ما عرف في التاريخ من الاستقرار المتزن، إن استقرار الصين بالنسبة إليه عديم الطمأنينة، بل إن الجماعات الأموية البدائية لم تكن أشد منا ثباتا.» وأقول مرة أخرى: «إن الفضل في ذلك يرجع إلى العلوم، لكنا لا نستطيع أن نسمح للعلم بأن يفسد بنفسه عمله الطيب؛ ولذا فنحن نحدد مجال بحثه بحرص شديد، ومن ثم أوشكت أن أنفى إلى إحدى الجزائر، إننا لا نسمح للعلم أن يعالج غير المشاكل المباشرة في اللحظة الراهنة، أما ما عدا ذلك من بحوث فإنها تقاوم بكل شدة». وسكت لحظة ثم قال: «وإني لأعجب حين أقرأ ما كان الناس في عهد فورد يكتبون عن التقدم العلمي ، يظهر أنهم تصوروا أنه يمكن أن يسير إلى ما لا نهاية بغض النظر عن كل شيء آخر، كانت المعرفة هي الخير كل الخير، وكانت للحقيقة أعلى القيم، وكل ما عدا ذلك ثانوي قليل الأهمية. نعم، إن الآراء قد بدأت تتغير حتى في ذلك الحين، وبذل فورد بنفسه جهدا كبيرا في نقل الاهتمام من الحق والجمال إلى الراحة والسعادة، واقتضى الإنتاج الكبير هذا الانتقال، إن السعادة العامة تجعل العجلات دائمة الدوران، أما الحق والجمال فلا يستطيعان، وبالطبع كلما استولت الجماهير على السلطة السياسية كانت بالسعادة أكثر اهتماما منها بالحق والجمال، ومع ذلك بقي البحث العلمي المطلق مصرحا به بالرغم من كل شيء، وما برح الناس يتكلمون عن الحق والجمال كأنهما أعظم الخير، وبقي الأمر كذلك حتى حرب السنوات التسع، عندئذ استبدلوا بالنغمة القديمة نغمة جديدة، ما الفائدة من الحق والجمال أو المعرفة، إذا كانت القنابل المحرقة تفرقع حولك من جميع الجهات؟ وكان ذلك بدء السيطرة على العلم - بعد حرب السنوات التسع، حينئذ استعد الناس لقبول السيطرة حتى على شهواتهم، وبذلوا كل نفيس في سبيل الحياة الهادئة، ومن ذلك التاريخ لم نفتر عن السيطرة على كل شيء، ولم يكن ذلك بالطبع في مصلحة الحق، ولكنه كان في مصلحة السعادة، إنك لا تحصل على شيء بغير مقابل، فكان لا بد من دفع الثمن للسعادة، وأنت نفسك تدفع ثمنها يا مستر واطسن؛ تدفع ثمنها لأنك تهتم بالجمال، وكنت شديد الاهتمام بالحق فساهمت في دفع الثمن.»
وخرج الهمجي عن صمت طويل وقال: «ولكنك لم تذهب إلى إحدى الجزر.»
فابتسم المراقب وقال: «هكذا دفعت الثمن باختياري أن أخدم السعادة، أقصد سعادة الآخرين - لا سعادتي.» وسكت برهة ثم قال: «ومن حسن الحظ أن بالعالم كثيرا من الجزر، ولست أدري ماذا نصنع لو لم تكن، أحسب أنا كنا نضعكم جميعا في غرفة الموت، وبهذه المناسبة هل تحب جو المناطق الحارة يا مستر واطسن؟ هل تحب جو ماركيزاز - مثلا - أو ساموا؟ أم هل تحب جوا أشد من هذا إنعاشا ؟»
فأجاب هلمهلتز وقد نهض من مقعده الهوائي قائلا: «إني أحب أسوأ أنواع الجو؛ لأني أعتقد أن المرء يحسن الكتاب إذا ساء الجو، وإذا كان هناك - مثلا - كثير من العواصف والأنواء ...»
فأومأ المراقب بالموافقة وقال: «إني أحب فيك هذه الروح يا مستر واطسن، أحبها حبا جما، أحبها بمقدار ما أنكرها، بحكم وظيفتي.» ثم ابتسم وقال: «ما رأيك في جزائر فوكلند؟»
صفحه نامشخص