فقال برنارد بمرارة شديدة: «إني أحب ذلك، وقد كنت أنت السبب في كل ما حدث، أبيت أن تحضر إلى حفلتي فانقلبوا جميعا ضدي!» وكان يعلم أن قوله هذا تعسف باطل، وكان يعترف في دخيلة نفسه - بل وصراحة آخر الأمر - بصدق كل ما كان الهمجي يقول حينئذ عن تفاهة الأصدقاء، الذين ينقلبون أعداء ألداء لمثل هذا الباعث الطفيف، ولكن برغم علمه هذا وإقراره بذلك، وبرغم أن معونة صاحبه له وعطفه عليه هي الآن عزاؤه الوحيد، تمرد برنارد على نفسه وأخذ ينمي في قلبه - إلى جانب محبته الصادقة للهمجي - ضيقا خفيا منه، ويدبر حملة من أنواع الانتقام الخفيفة يصبها فوق رأسه، فإن ضيقه بكبير المنشدين لا يجدي، ولا يمكن له أن ينتقم من رئيس القوارير أو مساعد مدير المصائر، فكانت للهمجي عند برنارد هذه الميزة الكبرى عليهم، وهي أنه سهل المنال، فهو أصلح للتضحية، إن من وظائف الصديق الرئيسية أن يعاني (بصورة خفيفة رمزية) العقوبات التي نحب - ولكنا لا نستطيع - أن نوقعها على الأعداء.
وكان هلمهلتز هو صديق التضحية الثاني لبرنارد، فلما انهزم أتاه مرة أخرى وتودد إلى صداقته، تلك الصداقة التي لم يكن يرى - وهو في أوجه - أنها جديرة بالرعاية، فمنحه هلمهلتز وده، ومنحه إياه بغير تثريب أو تعليق، كأنه نسي ما قام بينهما من شجار، وتأثر برنارد لذلك، وأحس بذلة النفس من نخوة صاحبه - وهي نخوة غير عادية - ولذا فهي شديدة الإذلال؛ لأنها لا تدين للسوما بشيء وتدين لشخصية هلمهلتز بكل شيء، إن هلمهلتز الذي نسي وتسامح هو هلمهلتز في حياته اليومية، وليس هلمهلتز وهو في عطلة نصف جرام من السوما، وكان برنارد له شاكرا (فلقد كان له في عوده إلى صديقه عزاء وسلوى) كما كان عليه ناقما (لأنه مما يسره أن ينتقم من هلمهلتز لكرم أخلاقه).
وعندما التقيا لأول مرة بعد الفراق، تدفق برنارد في حديثه عن أسباب شقائه وتقبل من صاحبه العزاء، ولم يعلم إلا بعد بضعة أيام أنه لم يكن وحده الرجل الذي عانى المشقات (فدهش لذلك وأحس بشيء من الخجل)، فلقد كان هلمهلتز في نزاع مع أصحاب السلطة والنفوذ، وذلك - كما قال - بشأن القوافي، كنت ألقي دروسي المعتادة في الهندسة العليا لطلبة السنة الثالثة، والمقرر يقع في اثنتي عشرة محاضرة، السابعة منها في القوافي - أو هي على وجه الدقة في «استخدام القوافي في الدعاية الخلقية وفي الإعلان»، ومن عادتي أن أوضح محاضرتي بكثير من الأمثلة الفنية، وقد فكرت هذه المرة أن أقدم إليه مثالا مما كتبت بنفسي من عهد قريب، وهذا بالطبع جنون محض - ولكني لم أستطع المقاومة.» وضحك ثم قال: «وكنت مشغوفا بأن أشهد تأثرهم به.» ثم قال في حزم شديد: «وأردت - فوق ذلك - أن أقوم بشيء من الدعاية، كنت أحاول أن أهندسهم حتى يحسوا بإحساسي عندما كتبت تلك القوافي، يا لله!» ثم ضحك مرة أخرى وقال: ما أشد ما أثرت من احتجاج! لقد استدعاني المدير، وهدد بفصلي في الحال، فأنا رجل بارز.
فسأله برنارد: «وماذا نظمت من قواف؟» - «قصيدة في العزلة.»
فرفع برنارد حاجبيه إلى أعلى. «سأنشدك إياها إن أردت.» وأنشد قائلا:
كان الاجتماع بالأمس،
والآن هناك العصي، ولكن الطبول محطمة،
والمدينة في منتصف الليل.
ونفخ في المزامير ولكن في الفراغ،
والشفاه مضمومة، والوجوه ناعمة،
صفحه نامشخص