قال «أندروكليس»: أعلمه حق العلم، وأجتنب النظر فيه كلما احتجت إلى نفسي ورأيي وبصيرتي، ولا أقبل عليه إلا حين أريد أن أستريح من هذا كله. ثم أنا على كل حال لا أقرأ «فيدون»، وما أعرف أني نظرت فيه منذ تركت مجالس الدرس. ذلك لأني لم أفكر في الموت بعد، وما أحب أن أفكر فيه، وما أريد أن ألقاه إلا فجاءة وعلى غير موعد أو انتظار. وإنك لتعلم أني لا أعدل بالفجاءة شيئا، وأني لا أكره شيئا كما أكره التدبر والتوقع وتقدير العواقب. وإذا أردتني على أن أنبئك بذنب الناس والآلهة والكون عندي، فهو أنهم جميعا قد تواطئوا على أن يلقوا في صدورنا، ويطبعوا في قلوبنا ونفوسنا، أن الموت ضربة لازب ليس لنا عنه منصرف. فهذا هو الشيء الوحيد الذي أعلمه علم يقين، وأنتظره على شدة كرهي للانتظار. وما أشد ما كنت أحب أن نخدع عن الموت، ونغر عن مقدمه، ونجهله الجهل كله، حتى نختطف اختطافا على غير علم به ولا توقع له!
أليس من أجمل الأشياء وأحسنها في نفوسنا أنا لا نعرف ما يضمر الغد، وما تخبئ لنا الساعة المقبلة التي لم نبلغها بعد؟! صدقني إن حظ الإنسان من هذا الوجود رديء حقا! فقد كان يجب أن يعلم كل شيء كما يعلم الآلهة أو أن يجهل كل شيء كما يجهل الحيوان، فأما أن يضطرب بين هاتين الطبقتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فشيء لا يطاق.
قال «كلكراتيس»: ما تزال مشغوفا بالمزاح، كلفا بالدعابة والعبث.
قال «أندروكليس»: برئت إليك الآن من المزاح، وبرئت إليك من الدعابة والعبث، إنما أعرض عليك دخيلة نفسي، ولو استطعت أن أخرج قلبي من بين جنبي لتنظر فيه لما رأيت في صفحة من صفحاته مزاحا ولا عبثا، إنما هو الجد كل الجد، والحزن كل الحزن؛ لأني لم أكن إلها ولا حيوانا. وهذا وحده هو الذي يحبب إلي دين «دينوزوس»! لأنه بما يشيع فينا من النشوة بهذا الشراب الذي علمنا اعتصاره من الكرم يرضيني كل الرضا؛ لأنه يرفعني إلى طبقة الآلهة حينا، ويخفضني إلى طبقة الحيوان أحيانا، ويخرجني دائما عن هذا الطور السخيف، طور الإنسان الذي فطر منافقا بطبعه، له عقل يقربه من الآلهة ولكنه قاصر ضعيف، وله جسم يقربه من الحيوان، ولكن العقل يفسد عليه غرائزه فيحول بينه وبين راحة الحيوان.
ومن هنا لا أدري ما الذي يغضبك على صديقنا وعلي. وينأى بك عن أن ترى رأينا، وتذهب مذهبنا، وتقبل مشورتنا، فتجعل النهار لقيصر والمسيح، وتجعل الليل لنفسك ول «دينوزوس». إنا لم نشر عليك ببدع من الرأي، ولم نكلفك كما لم نكلف أنفسنا ما يخالف الطبيعة التي فطرنا عليها. وما أشك في أن «جوبيتير» وأصحابه من آلهتنا الأعزاء لا ينكرون علينا ذلك ولا يلوموننا فيه. وهبهم فعلوا، فإن جوابي لهم حاضر، فهم المسئولون لأنهم خلقونا منافقين، وجعلوا لنا جسم الحيوان القوي، ونفس الإله الضعيف. ولو قد أرادوا لجعلونا أمثالهم آلهة لا ندين بالطاعة لأحد إلا لكبيرنا «جوبتير.» ولو قد أرادوا لجعلونا فصائل من الحيوان، لا يتقدم إليها قيصر ولا كسرى ولا فرعون بعبادة هذا الإله أو ذاك. ومن يدري؟! لعلهم لو جعلونا فصائل من الحيوان؛ لأحسنوا إلينا أكثر مما تظن! فمن الحيوان ما يتقدم له الناس بأنواع العبادات، وفنون الطاعة، وضروب القربان، ومن يدري؟! لعلنا لو كنا حيوانا أن نعبد في طرف من أطراف الأرض، وأن يقتتل الناس حول ديننا وعبادتنا، كما يقتتلون حول دين المسيح وعبادة «أبلون». وأنا بالطبع لا أتحدث إلا عن اليونان ولا آسي إلا لليونان؛ فاليونان وحدهم هم الناس، وما يعبأ الآلهة بغيرهم من الشعوب.
قال «كلكراتيس»: ألم يتعبك هذا الحديث الذي لا ينقطع، وهذا الهراء الذي لا ينقضي؟! أتراك تقدمت إلى «دينوزوس» بشيء من العبادة فأفرغت في جوفك بعض الأقداح التي تطلق لسانك بهذا الهذيان؟! ولكنك قد جعلت النهار لقيصر، أفتراك جرت عليه وسرقت منه بعض النهار؟!
قال «أندروكليس»: ثم تزعم بعد ذلك أني أمزح وألهو وأنت المغرق في المزاح واللهو! فأنا قبل كل شيء لا ألغي ولا أهذي، وإنما أتحدث إليك بالجد كل الجد، وأنا بعد ذلك لم أجر على قيصر ولم أسرق منه بعض النهار! لأن قيصر لم يحرم الخمر، ولا ينهي عن التهام الأقداح. وأنا أستطيع أن أعرف لقيصر حقه، وأن أرضي مع ذلك «دينوزوس» أعلن حب قيصر، وأسر طاعة «دينوزوس» في الليل والنهار جميعا. ثم أنا بعد هذا وذاك لا أتحرج من الجور على قيصر إذا أمنت شره ومكره. ولعلي أجد في خداعه والعبث به بعض اللذة. فقد علمنا خداع الآلهة والعبث بهم، فكيف برجل مثلنا لا يمتاز منا إلا بهذه الحماقة التي تخيل إليه أنه رجل ممتاز، وأنه ليس كغيره من الناس.
صدقني أيها الحبيب، أرح نفسك من اليقين! فإن اليقين لا يليق بالناس، وإنما يليق بالآلهة. والحياة كلها لا تستحق اليقين، ولا تعدل ما يكلف أصحابه من الألم والحسرة.
إن اليقين ثبات واستقرار، وإن الحياة مضي وزوال. فاستقبل الحياة المتنقلة بما يلائمها من هذا الشك الذي ينقل نفسك معها من طور إلى طور. وما لي أكشف لك عن خبيئة نفسي، وما أظنك إلا عرفتها منذ اتصلت بيننا العشرة، وطالت بيننا المخالطة! فأنا أشير عليك وعلى صديقنا بأن نجعل جهر أمرنا لقيصر وإلهه الجديد، وسره ل «دينوزوس» وأصحابه القدماء. وما أظن أنك ترى هذه المشورة تصدر عن رجل يؤمن بالدين القديم أو بالدين الجديد. فطبيعة الدين لا تحتمل شركة ولا اقتساما. ومن أباح الشركة في الدين فقد ألحد فيه. وأنا أبيح هذه الشركة، وأكثر المعاصرين لنا يبيحونها ويتخذونها لأنفسهم مذهبا.
فالدين عندي، كما هو عند هؤلاء المعاصرين، وسيلة لا غاية، وطريق لا غرض. طاعة قيصر وإلهه تكفل لنا الأمن على الحياة والثروة والأمل في المجد والجاه والسلطان. وطاعة «دينوزوس» وأصحابه تكفل لنا لذة الحياة ونعيمها وإمتاع نفوسنا وأجسامنا بما تثيره اللذة والنعيم من ضروب الإحساس والشعور. وما أظنك تصدق أن أمثالنا من الفلاسفة المثقفين يستطيعون أن يطمئنوا إلى «جوبتير» وأصدقائه، إلا أن يلغوا عقولهم إلغاء، أو يردوا إلى سذاجة القدماء ردا، ويعودوا كأولئك الذين كانوا يعيشون بغرائزهم قبل أن ينشأ العقل وقبل أن يحدث الفلسفة للناس.
صفحه نامشخص