والشيء الذي ليس فيه شك ولا ريب، هو أن صديقه كان مخلصا صادق النية حين أعلن إليه وإلى صاحبه أنه يستعينهما على خطب ألم، ويستشيرهما في حادث طرأ، ويريد أن يكون معهما على طاعة قيصر إن أزمعا الطاعة، وعلى عصيان قيصر إن أرادا العصيان.
ولو أن «أندروكليس» كان صلب الرأي جريء القلب مستمسكا بتراث آبائه حريصا على حقه في حرية الضمير، لاستطاع الصديقان أن يحملا صديقهما أن يحكموا أمرهم بينهم، وأن يلتمسوا لأنفسهم مخرجا من هذا الضيق، يلتمسون هذا المخرج بالحيلة أو بالضعف.
ولكن «أندروكليس» رجل لين النفس، فاتر الرأي، لا يحفل بدين قديم أو جديد، ولا يقدر تراث الآباء ولا كسب الأبناء! بل هو لا يفكر في أمس ولا في غد، وإنما يفكر في يومه الذي يعيش فيه، يعرض عما مضى، ولا ينتظر ما سيأتي، ولا يؤمن إلا بما يرى، وبما يرى في الساعة التي هو فيها. فإلهه الذي يعبده ويخلص له هو نفسه، يبتغي لها اللذة والنعيم، ويدفع عنها الألم والشقاء ما وجد إلى ذلك سبيلا. وهو من أجل ذلك مضطرب الرأي، أو لا رأي له، ينكر اليوم ما عرف بالأمس، وقد يعرف الآن ما كان ينكر منذ حين.
وقد آثر «أندروكليس» العافية، وأشار بالطاعة والإذعان، فوافق رأيه ومشورته هوى الحاكم، وإيثاره للراحة والهدوء، وحرصه على الاستمتاع بلذة الأمن والقوة والسلطان والجاه، والاندفاع مع الأمل القوي البعيد الذي لا يعرف حدا يقف عنده ولا غاية ينتهي إليها.
فلم يبق بعد اتفاق هذين الصديقين ل «كلكراتيس» إلا أن يختار بين اثنتين: فإما أن يشايع صديقيه على ما أحبا، وليس إلى ذلك من سبيل؛ لأنه لا يريده، ولو أراده لما استطاعه ولا قدر عليه. وإما أن يخالف صديقيه، ولكن على ألا يؤذيهما ولا يسوءهما ولا يعرضهما لشر يأتيهما من قبل السلطان، ولا يلقى في روعهما أنه مقاطع لهما أو ساخط عليهما ! فهما لا يستحقان مقاطعة ولا سخطا، وقد نصحا له جهدهما، وآثراه بما يؤثران به نفسيهما. وهذه الخطة هي التي آثرها «كلكراتيس»، ولكنه يلتمس إليها السبيل، ويبتغي إليها الوسيلة؛ فيفكر ويطيل التفكير دون أن يهتدي إلى المذهب الذي يربح منه صديقيه من غير أن يشق عليهما أو يسوق إليهما بعض ما يكرهان.
وقد فكر في الموت. وأي شيء كان أيسر من التفكير في الموت بالقياس إلى أولئك المثقفين المفلسفين من اليونان في ذلك العصر، ولا سيما حين كانوا يحتفظون بالوثنية أو بظل منها! فقد علمهم شيوخهم وأساتذتهم من أتباع «أبيقور» وأصحاب الرواق أن حياة الفرد ليست شيئا، وأن موت الفرد ليس شيئا، وقد ضربت لهم الأمثال مرات ومرات، فما أكثر أولئك الذين كانوا يكرهون الحياة فيخرجون منها مزدرين لها أشد الازدراء، مكبرين لأنفسهم أشد الإكبار! يرون شيئا من العزة في أنهم دخلوا الحياة غير مريدين ولا مختارين، فأتيحت لهم لذاتها، وفرضت عليهم آلامها وهم يستطيعون أن يعرضوا عن هذه اللذات الحلوة، وأن يتمسكوا بهذه الآلام المرة، كما يستطيعون أن يجتثوا حياتهم من أصلها اجتثاثا فيلغوا اللذات والآلام جميعا، ويثبتوا لكل إنسان ولكل إله ولأنفسهم قبل كل إنسان وكل إله أنهم أكبر من اللذة، وأكبر من الألم، وأكبر من الحياة نفسها.
نعم! فكر صاحبنا في الموت واستحضره، وكاد يطيل الوقوف عنده، وكاد يأخذ في تدبيره أمره وأمر الذين سيتركهم من ورائه وما سيورثهم من ثروة ضخمة وغنى عريض. ولكنه أحس أن نفسه لا ترغب في الموت، ولا تطيب عن الحياة، لا إشفاقا من الموت، ولا تهالكا على الحياة، بل رغبة في المعرفة، واستزادة من لذة العلم. فالموت ليس شيئا، والحياة ليست بذات خطر، ولكن بين هذا الموت وهذه الحياة شعوره هو بأنه موجود، وعلمه هو الذي يتزايد بين حين وحين، فيظهره على ما كان، وعلى ما هو كائن، وعلى ما سيكون. ولو أنه استيقن أن وراء الموت علما، أو أن وراء الموت شيئا خليقا أن يعلم، لما تردد في الإسراع إليه! ولكنه لا يعرف ما وراء الموت، بل هو يقطع بأن ليس وراء الموت علم ولا عالم ولا معلوم والموت آت لا محالة، فما له يتعجله! والموت يسعى إلى الإنسان، والإنسان مدفوع إلى الموت دفعا، فما باله لا ينتظر هذه الساعة التي لا بد من أن تلم به! وما باله لا يستمتع بهذه اللذة الغالية النادرة التي لا تقدر ولا تقوم: لذة العلم والمعرفة! وهو يفكر في هذا كله متعمقا له، مستغرقا فيه، يسأل نفسه: أي الأمور أهون لقاء وأيسر احتمالا: إرضاء صديقيه بطاعة قيصر، وتكلف ما يقتضيه ذلك من النفاق، أم إسخاط صديقيه وإسخاط قيصر والتعرض لما يستتبعه ذلك من آلام النفس وأحزان القلب وألوان الأذى، أم إراحة نفسه وإراحة صديقيه وإراحة قيصر من هذا كله باستقبال الموت والإسراع إليه؟ ثم يخطر له أن أكثر الناس مستيقنون بأن الموت لا يختم وجود الإنسان، وإنما ينقله من طور إلى طور، ويخرجه من حياة ليدخله في حياة أخرى. وهو يستعرض في هذا أحاديث الناس من اليونان وغير اليونان على اختلاف أزمانهم، وعلى اختلاف هذه الأحاديث فلا تطمئن نفسه إلى شيء منها، ولا يرى فيها إلا ألوانا من الأحلام، وفنونا من التماس العزاء. ثم يذكر «سقراط» ومصرعه وأحاديثه، وما كان بينه وبين أصحابه من حوار في خلود النفس، وإذا هو قد نسي قيصر ونسي المسيح ونسى صديقيه، ولم يذكر إلا شيئا واحدا هو لذة هذا الحوار، وعذوبة هذا الحديث الذي قرأه مرات لا يحصيها، فلم يؤمن به ولم يطمئن إليه، ولكنه مع ذلك لا يزداد إلا كلفا بقراءته، وحرصا على الاستمتاع بما تثير هذه القراءة في نفسه من لذة خالصة لا يفنيها الاستمتاع بها وإنما يزيدها ويضاعفها، كأنها الكنز لا يفنيه استغلاله، وإنما يغنيه وينميه، وإذا هو يعمد إلى «فيدون» وينقطع إلى قراءته عن كل خاطر، وعن كل شيء، وعن كل إنسان.
3
ولكن عبدا يدخل مترفقا، وينبه سيده متلطفا، وينبئه أن «أندروكليس» يستأذن عليه. ولست أدري أرضى صاحبنا عن مقدم صاحبه الذي كان يحبه ويؤثره، أم سخط على هذه الزيارة لأنها ستصرفه عن صحبة أفلاطون الذي لم يكن يعدل بصحبته شيئا. ولكنه أذن لصديقه من طرف اللسان بالدخول، ثم مشى في قراءته لم ينتظر صديقه، ولم يخف للقائه، ولا تهيأ لاستقباله. ويدخل الصديق فيراه عاكفا على كتابه، ماضيا في قراءته، فيمهله حينا، ثم يمهله حينا، ثم يسعى إليه فيمسه مسا رفيقا ويقول له في صوت عذب: ما أرى إلا أنا نتهيأ للموت! فقد سن لنا القدماء قراءة «فيدون» قبل أن نغمد الخناجر في صدورنا.
ويسمع «كلكراتيس» حديث صاحبه، فينهض إليه مذعورا كأنما أقبل من نوم عميق تضطرب فيه أجمل الأحلام وألذها. نهض إليه مذعورا وهو يقول: ها أنت ذا؟! لقد أذكر أني أنبئت بمقدمك، وكنت أريد أن أفرغ من بعض الحديث قبل أن أخف إليك، ولكنك تعلم سحر أفلاطون.
صفحه نامشخص