قالا: لو شاء الله لأتى هؤلاء الناس من كل مكان، فليست حصونهم ولا آطامهم بالمنيعة المؤشبة، وليست السبيل إليهم بالعسيرة ولا الملتوية، ولكن الله لا يشاء؛ لأمر قضاه. قال الملك: أفصحا؛ فإني لا أفهم عنكما منذ اليوم. فما الله؟ وأين يكون؟ وكيف له أن يشاء ولا يشاء؟ هل لكما في أن تدلاني عليه لعلي أتخذ إليه من الأسباب ما يرضيه أو يسلطني عليه؟ فتضاحك الحبران وقالا: حقا أيها الملك إنك لا تفهم عنا منذ اليوم، فليس الله ملكا كالملوك، ولا قائدا كالقادة ولا عظيما كالعظماء. وما ينبغي لك ولغيرك من الناس أن تسأله عما يشاء أو عما لا يشاء، إنما ينبغي لك ولغيرك من الناس أن تعرف سلطانه وعظمته، ثم تذعن له وتؤمن به، وترضى بما يريد لا مجادلا ولا ممانعا. قال: فمن هو؟ أين هو؟ قالا: هو رب السموات والأرض، وهو الذي يتسلط على كل شيء ولا يتسلط عليه شيء، وهو الذي يخلق كل شيء، وهو الذي منحك هذا الملك الواسع السلطان العريض، وهو الذي إن شاء ردك كواحد من رعيتك، وهو الذي إن شاء سلبك ما أنت فيه وسلبك الحياة أيضا. أرأيت إلى ما حولك كيف كان ومن أحدثه؟ قال: هذا شيء قلما فكرت فيه أو سألت عنه، وإنه مع ذلك لخليق بالتفكير حري بالسؤال، فمن يكون قد خلق الأشياء؟ وقدر لها نظامها؟ قالا: فاسمع أيها الملك! فإنا سنقرأ عليك نبأ الخلق كيف كان، وأمر الخلق إلام يصير ثم قرآ عليه صحفا من التوراة لم يكد يسمعها ويفقه بعض ما فيها، حتى لان قلبه وانبسطت نفسه، وكشف عنه الغطاء، فقال: يا هذان إن ما تقولان لحق، فعلماني علمكما ومراني قبل ذلك بما أصنع مع قومكما. قالا: أما قومنا فالرأي أن تدعهم؛ فإن الله لم يقدر لك أن تقهرهم، ولا أن تملك أرضهم، إنما ادخرهم وادخر أرضهم لشيء سيكون في آخر الزمان نجده عندنا مكتوبا في هذه الأسفار التي نتلوها عليك. قال: وما ذاك؟ قالا: نبي يخرج من هذا الصوب - وأشارا نحو مكة - فيمكر به قومه ويأبون عليه، ويكيدون له، ويخرجونه من الأرض، فيأوى إلى هذا البلد، فيجد النصر والمنع، ويجد العزة والقوة، وينشر دينه من هذه الآطام فيملأ به الأرض كلها، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور. وما كان الله ليمكنك من أرض أعدها دارا لنبيه، ومهبطا لوحيه. ومصدرا لنوره المبين. قال: أوتجدان هذا عندكما مكتوبا؟ قالا: نعم، ونجد عندنا مكتوبا أنك ستسمع لنا، وتقبل نصحنا لك، وتنصرف عن هذا الحي، وأن قوما من هذيل سيلقونك إذا قربت من مخرج هذا النبي، فيغرونك به وببيت لله فيه، وسيزعمون لك أن في هذا البيت كنوزا من الذهب والفضة ومن الدر والجوهر. فاحذر أن تسمع لهم أو تأتي ما يدعونك إليه. ولكن اذهب إلى هذا البيت فأكرمه وعظمه، وطف به سبعا، وامنح أهله من العطف والبر والرعاية ما تقدر عليه. قال: يا هذان إني مصدق لكما، مؤمن بما تقولان، سامع لما تأمران به. ولكني لا أستطيع أن أنصرف إذا لم تصحباني، فمالي من صحبتكما بد. ولا بد من أن أعلم علمكما كله، ولا بد من أن أتخذكما لي وزيرين أستنصحكما، وأستعين برأيكما وفقهكما على ما يعرض لي من الأمر. قالا: لك ما تحب من ذلك أيها الملك، فسر راشدا فنحن معك.
وأمر الملك من أذن في الجيش بأنه مرتحل مع الفجر. وارتحل الجند غير آسفين ولا محزونين. وأيهم لم تكن تضيق نفسه بهذا الحصار الطويل العقيم، والدار قريبة وهو إلى أهله مشوق! فلما قارب الملك مكة أقبل جماعة من هذيل يستأذنون. فلما أذن لهم قالوا: أيها الملك، إنما سعى بنا إليك نصحنا لك، وإيثارنا لرضاك. قال الملك في نفسه: فهذه نبوة الحبرين قد صدقت. ثم أصغى إلى الهذليين، فقالوا: وستمر بمكة وفيها بيت يعظمه أهلها، يعبدون ما ادخروا فيه من مال، وما كنزوا فيه من ذهب وفضة ومن در وجوهر، يطوفون حوله وينحرون له، وقد نصبوا عليه الأوثان. قال الملك: فماذا تأمرون؟ قالوا: ما نحب أن يفلت منك هذا الكنز، فلو قد هدمته واحتويت ما فيه وأخذت أهله عبيدا لك ولأهل صنعاء! قال الملك في نفسه: الآن قد تمت نبوة الحبرين. ثم قال للهذليين: لقد قبلت نصحكم وسمعت أمركم، وإني ماض فيما تريدون، وسأعرف لكم حقكم علي، ولكني أريد أن تقدموا معي على أهل مكة فتكونوا أول من يعمل في هدم هذا البيت. فلم يكد الهذليون يسمعون منه هذا القول حتى أخذوا، وظهر على وجوههم الفزع والروع. فلما ألح الملك أظهروا من التلكؤ والتردد ما لم يدع للريب في أمرهم سبيلا، فأمر الملك بتعذيبهم حتى يعترفوا بالحق. فلما ألح عليهم العذاب قالوا: أيها الملك ما أردنا بك إلا شرا، إنا لنكبر هذا البيت ونعظمه، ونرى له علينا حرمة، ونعلم أنه لم يحاول أحد أن يمسه بسوء إلا أهلكه الله. وقد وترتنا في مخرجك الأول، فقتلت الرجال، وسقت المال، وسبيت الحرائر، وأذللت هذيلا، ولم تكن قد عرفت الذل. فلما أعجزنا أن نثأر لأنفسنا بأيدينا أردنا أن نكل ثأرنا إلى من هو أقوى منك ومنا، فأغريناك بهذا البيت واثقين بأن صاحبه لن يخلي بينك وبينه، ولن يمهلك إن حاولت الاعتداء عليه. قال الملك : إنما جزاؤكم على هذا الكيد أن تقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولكني قد قسوت عليكم في خرجتي الأولى، وأسرفت فيكم قتلا وسبيا، فسأهبكم الآن لأنفسكم ولأهلكم، ولعل الله أن يجعل عفوي عنكم كفارة لما قدمت فيكم من سوء، فاذهبوا فأنتم أحرار!
قال الحبران للملك: لقد أحسنت أيها الملك حين وضعت العفو عند القدرة موضع اليأس والانتقام. وما نشك في أنك تجد لهذا العفو لذة وراحة، ولكن لذتك وراحتك لن تعدل ما نجد من غبطة وسرور، وقد أخذ دين الله سبيله إلى نفسك، وبسط سلطانه على قلبك، فأنزل فيه اللين منزل القسوة، والرحمة مكان العنف والشدة، وكنا نحن وسيلته إلى ذلك. وإنا لنرجو أن يغفر الله لنا بهذا السعي بعض ما قدمنا من سيئة في حياتنا. قال الملك: أومثلكما يقدم السيئات أو يقترف الآثام، وما رأيت خيرا منكما ولا أهدى إلى الحق؟! قال الحبران: أمعن أيها الملك في قراءة كتب الله وتدبرها، وأنعم أيها الملك النظر فيما حولك من خلق الله وفيمن حولك من الناس، فسترى أن الإنسان صغير مهما يكبر، ضئيل مهما يعظم، ضعيف مهما يقو، معرض للخطيئة مهما ينصح لنفسه ومهما يأخذها بالمعروف ويجنبها المنكر. قال الملك وقد كبر الحبران في نفسه: ليتني عرفتكما في أول العمر ومبتدأ الحياة! إذا لاجتنبت كثيرا من الشر، ولتنكبت كثيرا من الذنب. ولكن سأكون عند ما تحبان، ولن تريا مني منذ اليوم إلا ما يرضيكما.
وأقبل الملك على مكة فدخلها خاشعا منيبا، وطاف بالبيت وأعظم أمره، ونحر للناس وأطعمهم، وأذاع فيهم الخير والمعروف. فلما كان من الغد قال للحبرين: إني أريت أن أكسو هذا البيت. قالا: فافعل ما أمرت. فكساه خصفا.
1
ومضى يعظم البيت ويكرم أهله بياض يومه. فلما أصبح قال للحبرين: إني أريت كأن هذه الكسوة لا تليق بهذا البيت. قالا: فاكسه خيرا منها. فكساه وشيا، ومضى نهاره يعظم البيت ويجزل المعروف لأهله. فلما أصبح قال للحبرين: إني أريت كأن هذه الكسوة لا ترضي الله. قالا: فاجتهد في إرضائه ما وسعك الاجتهاد . فكساه حريرا وديباجا، وزينه بالذهب والفضة والجوهر، وفرق العطايا بين الناس. ثم أصبح فقال للحبرين: لم أر الليلة شيئا. قالا: فقد رضي إذا رب البيت.
وارتحل الملك بعد ذلك إلى اليمن وقد سبقته إليها الأنباء بأنه قد ظفر ظفرا لم يظفره ملك من قبله، وسبقته إليها الأنباء بأنه قد صبأ عن دينه وترك عبادة الآلهة التي كان يعظمها ويسعى لها. وكان أهل اليمن قد تأهبوا للقائه في حفل حافل وزينة بارعة بالغة. فلما انتهت إليهم الأنباء بأنه قد صبأ
2
تنكروا له، وأبوا إلا أن ينصبوا له الحرب، وأن يصدوا عن بلادهم ويردوا عن حمير شر هذا الدين الجديد الذي جاءهم به من يثرب.
فلما بلغ الملك أطراف اليمن لقيته طلائع الأقيال
صفحه نامشخص