در حاشیه زندگینامه

طه حسین d. 1392 AH
162

در حاشیه زندگینامه

على هامش السيرة

ژانرها

ولبث الشيخ مطرقا تتغنى في نفسه الكئيبة هذه الخواطر الحزينة التي تريد أن تبتسم فلا تجد إلى الابتسام سبيلا، ويخفق قلبه بهذه المعاني الشاجية التي تريد أن تشرق فلا تكاد تدنو من النور حتى يلقى بينها وبينه ستار رقيق من الظلمة يدنيها منه وينئيها عنه، ويغريها به ويزهدها فيه. ولم يكن يدري عمن كانت تتحدث هذه الخواطر في نفسه المحزونة. ولم يكن يعلم إلى من كانت تشير هذه المعاني القاتمة في قلبه السقيم. وإنما أنفق يوما بغيضا مريضا تتابعت عليه فيه الهموم، وتواترت عليه فيه الأحزان، وضاقت عليه به الحياة. يوما من هذه الأيام التي تظلم على النفوس أشد الإظلام وإن صحا فيها الجو واعتدل فيها الإقليم، وترقرق فيها ضوء الشمس يحمل على نفوس الغافلين لذة وبهجة وجمالا. يوما من هذه الأيام التي يشرق فيها وجه الطبيعة، ويبسم فيها ثغر الحياة، وتكاد النفوس الحرة تقبل فيها على الأمل والعمل، لولا أن طائفا من السر يصدر عن بعض النفوس الماهرة الماكرة، فيحول إشراق الطبيعة ظلمة واكتئابا، ويرد ابتسام الحياة إلى عبوس وتقطيب. والله قد امتحن أخيار الناس بأشرارهم، وابتلى علماء الناس بجهالهم، وسلط على إخلاص المخلصين نفاق المنافقين، وعلى جد أصحاب الجد والعمل كيد أصحاب الكيد والعجز. يطهر بهذه المحنة قلوبهم، ويصفي بهذه الفتنة نفوسهم، ويبلو بهذه التجربة قدرتهم على الصبر، وثباتهم للخطب، ونفاذهم من المكروه، وحسن استعدادهم للتضحية في سبيل ما يؤمنون به من رأي، وما يسعون إليه من خير، وما يدفعون إليه من إصلاح.

وكان الشيخ قد استقبل يومه نشيطا، يريد أن يعمل كما تعود أن يستقبل أيامه، مندفعا إلى ما يسر له من ألوان النشاط. ولكنه لم يكد يستقبل الضحى حتى جاءته الأنباء عن يمين وعن شمال بأن سحبا تتجمع في الجو غير بعيدة، وقد أخذ بعضها يركب بعضا، وجعلت ريح هوجاء حمقاء تجمعها وتدفعها، تريد أن تسوقها إليه وتصب شرها عليه، فلم يحفل بذلك ولم يأبه له؛ وأراد أن يمضي فيما كان بسبيله، ولكن الأنباء تأتي بأن سحبا أخرى تتجمع ويركب بعضها بعضا، وبأن كيدا يكاد، وشرا يراد، وألوانا من المكر يهيأ بعضها سرا، ويهيأ بعضها إعلانا. وما هي إلا أن أقبل عليه المقبلون، منهم من ينذر، ومنهم من يرثي، ومنهم من يواسي، حتى ضاق بهم جميعا وبما يتحدثون عنه ويخوضون فيه. فانصرف إلى نفسه، ولكنه لم يلبث أن ضاق بها. وانصرف إلى أهله، ولكنه لم يلبث أن نبا عنهم. وانصرف إلى كتبه، ولكنه لم يلبث أن زهد فيها. فهجر المدينة والتمس العزلة في مكان بعيد في طرف من أطراف الريف، وقد قامت فيه شجرات خضر ملتفة الأغصان، على جدول من الماء هادئ صافي الأديم، يداعب النسيم صفحته في رفق، فيثير عليها أمواجا صغارا توشك أن تكون حبابا.

هنالك جلس الشيخ مع الأصيل، وهنالك انصرف الشيخ عن نفسه وعن الناس، وعن المدينة وأهل المدينة، وعن الأعداء وما كانوا يأتمرون، وعن الأصدقاء وما كانوا يدبرون، وفرغ لشجراته الخضر وجدوله الصافي، وهذا النسيم العليل الفاتر يداعب أوراق الشجر وصفحة الجدول، وضوء الشمس الحزينة المتهالكة يتبعها حزينا متهالكا في طريقها إلى الغروب، وهذه الطير الكثيرة، قد أقامت على غصونها مترجحة في أناة وهدوء، متغنية في يشبه الحزن والأسى كأنما كانت تودع النهار كارهة للوداع، وتستقبل الليل ضيقة باستقباله.

وإذا نفس الشيخ تمتزج بهذه الأشجار الخضر، وهذا الجدول الصافي، وهذا النسيم الفاتر، وهذا الضوء الشاحب، وهذه الطير البائسة اليائسة. وإذا هذه الخواطر الحزينة تلم بنفسه، وتخفق بقلبه، وتبلغ لسانه فيوشك أن يتحرك بها لولا أنه يبغض أصوات الناس، ويبغض صوت نفسه أيضا، فيسمع لهذه الخواطر تتحدث إلى نفسه وتبلغها من غير طريق الأذن. ويمضي في ذلك وقتا لا يعرف أكان طويلا أم كان قصيرا، وقد نسي كل شيء، ونفذ من كل شيء، وخلا إلى غير شيء، إن جاز أن يخلو الناس إلى غير شيء.

وها هو ذا يفيق من حاله تلك التي لم تكن نوما ولا يقظة، والتي لم تكن غيبا ولا شهادة، لا يدري كيف دفع إلى هذه الحال، ولا يدري كيف خرج من هذه الحال. وأكبر الظن أن الصمت المتصل من حوله قد دعاه إلى نفسه أو دعا نفسه إليه، فثاب الشيخ إلى نفسه أو ثابت نفس الشيخ إليه. وأكبر الظن أن هذه الخواطر الحزينة التي أطالت التردد بين نفسه وقلبه، وأطالت الغناء في دخيلة ضميره، قد دعت إليه هذه الصورة الغريبة الجميلة التي رآها ماثلة أمامه على الضفة المواجهة له من ضفتي الجدول، يترقرق على وجهها الرائع البارع غشاء رقيق هادئ من ضوء القمر، الذي قام في مكانه من السماء يرسل أشعته المطمئنة في أناة وريث إلى الأرض، كأنما يريد أن يداعب الأرض وما عليها بأشعته تلك مداعبة الساخر الماكر الذي لا يحفل بأحد، ولا يحفل بشيء.

والغريب أن الشيخ لم ينكر هذه الصورة التي كانت ماثلة أمامه ولم يعرفها، ولم يضق بمكانها منه ولم تنبسط نفسه لها، وإنما نظر إليها فأطال النظر، كأنما كان ينتظر زيارتها له وإلمامها به. ونظر إليها دون أن يوجه إليها حديثا، كأنما كان ينتظر منها أن تبدأه هي بالحديث. وقد فعلت؛ فهذا صوت حلو فاتن رقيق يصل إلى الشيخ وقد مازجه همس الجدول الذي كانت أمواجه تصطفق كأنما تحمل النسيم سرا إلى الليل، وإذا هذا الصوت الحلو الفاتن يقع في نفس الشيخ موقع الماء من ذي الغلة الصادي، فيرد إليه حياته ونشاطه، ويذكره بيومه المظلم وليلته المشرقة.

وإذا هو يسمع الصورة تسأله: «ما هذا الصمت الذي أنت مغرق فيه؟! لقد دعوتني إلى نفسك فأطلت الدعاء. وها أنا ذي أسعى إليك وألم بك وأقف منك غير بعيد، فلا تحفل بي ولا تأبه لي، ولا توجه إلي حديثا ولا تسألني عن شيء. ففيم دعوتني إذا؟ وفيم تكلفت السعي إليك؟ وفيم تجشمت في ذلك ظلمة الليل؟!»

قال الشيخ في هدوء ودعة: «أنا دعوتك يا ابنتي؟! ومن تكونين؟»

قالت: «فمن هذه التي أقبلت تسعى رويدا رويدا، مثل ما يسعى النسيم العليل؟»

قال الشيخ: «لا أدري يا ابنتي؛ لم أدع أحدا ولم أتحدث إلى أحد وإنما هي خواطر كانت تضطرب بها نفسي، ومعان كان يخفق بها قلبي.»

صفحه نامشخص