واجتهد أبو جهل في أن يجمع قريشا على القطيعة ويمضي بها فيما أحب من إخلاف الوعد ونكث العهد فلم يفلح، وإنما انتصر عليه أولو الحلم والمروءة من قومه، فرفع الحصار عن بني هاشم، واستخذى أبو جهل وحليفه أبو مرة، وعادا يلتمسان العزاء عند زقهما ذاك الروي بنار تشبه الخمر أو خمر تشبه النار.
8
على أن الحوادث ردت إلى أبي جهل صلفه وخيلاءه، وإلى أبي مرة شيئا من أمل وفضلا من رجاء. فقد مات أبو طالب، وماتت بعده خديجة بقليل، وفقد محمد ردأه الذي كان يلوذ به، كما فقد سكنه الذي كان يأوي إليه، وأدركته الشدة حين كان يلقى الناس فيطمع فيه سفهاؤهم ويهزأ منه حلماؤهم. وأدركته الشدة حين كان يأوي إلى بيته فلا يجد فيه ما كان يجد عند خديجة من الرحمة والعطف والعزاء. وهم عمه أبو لهب أن يقوم منه مقام أبي طالب فيحميه من الأذى ويجيره من الظلم والبغي. ولكن أبا جهل عرف كيف يرد أبا لهب عن همه ذاك، جاءه فقال له: «سل ابن أخيك عن أبيك عبد المطلب أين هو؟» فلما سأل أبو لهب محمدا: «أين عبد المطلب؟» أجابه: «بين قومه.» فخرج الرجل راضيا لا يرى بجواب ابن أخيه بأسا. ولكن أبا جهل ضحك له ضحكة الشيطان وقال: «فإنه يزعم أن عبد المطلب وقومه في النار.» فرجع أبو لهب إلى ابن أخيه يسأله: «أحق ما أنبئت به من أنك تقول إن عبد المطلب في النار؟» قال رسول الله: «نعم! وكل من مات على جاهليته فهو في النار.» قال أبو لهب: «لا جوار لك عندي.» ثم خرج إلى قريش، فقال: «اصنعوا بصاحبكم ما تريدون فإني قد رفعت عنه حمايتي وجواري.»
منذ ذلك اليوم بلغت الفتنة أقصاها، وانتهت المحنة إلى غايتها، وعرف رسول الله أن ليس له بمكة أمن، فخرج يلتمس الأمن في الطائف عند ثقيف، فردوه أشنع رد وأقبحه، فعاد إلى مكة محزونا مكلوما، واثقا بالله مع ذلك أعظم ثقة وأقواها. على أنه لم يستطع أن يدخل مكة حتى أرسل إلى مطعم بن عدي فاستجاره فأجاره مطعم، ودخل مكة آمنا. ولكن أي أمن هذا الذي هو مدين به لرجل من غير رهطه الأدنين!
وفي تلك الأعوام طغت قريش وبغت، وأسرف أبو جهل في فرحه ومرحه. وجعل محمد يترقب الموسم يعرض نفسه على قبائل العرب يسألهم أن يحموه ويمنعوه حتى يؤدي رسالات ربه فلا يجد عندهم غناء، حتى استجاب له الأوس والخزرج، فأذن للمسلمين في الهجرة إلى يثرب، وأخذوا يخرجون من مكة أرسالا. هنالك تنبه أبو جهل وما كان غافلا، فجد في تحريض قريش وتأليبها لتمنع المسلمين من الهجرة. ولكن لله أمرا هو بالغه، وقدرا هو مجريه؛ فقد هاجر أكثر المسلمين، وأقام محمد بمكة ينتظر إذن الله له في الهجرة، ومعه صاحبه أبو بكر وابن عمه علي. وقد علمت قريش وعلم أبو جهل أنها القوة والمنعة لمحمد إن هاجر إلى يثرب، وأنها الحرب على مكة ومن فيها إن استطاع محمد أن يأوي إلى الأنصار.
وهنا بذل أبو جهل أقصى جهده وغاية ما يملك من قوة، وآزره حليفه أبو مرة فأحسن مؤازرته. واجتمعت قريش في دار ندوتها تتشاور في أمر محمد، وحضر اجتماعهم أبو مرة ظاهرا لهم في زيه ذاك الذي كان يراه فيه أبو جهل. فلما جعل القوم يديرون رأيهم بينهم أخذ أبو مرة يرد على كل متكلم كلامه، حتى قال أبو جهل مقالته فأيدها أبو مرة أشد التأييد. ولم لا! لقد كانت مقالة أبو جهل تبلغه الغاية التي كان يسعى إليها. رأى أبو جهل أن ينتدب لقتل محمد فتى جلدا من كل قبيلة من قبائل قريش، ثم إذا اجتمع هؤلاء الفتيان عدوا على محمد فضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك ذهب دمه بين القبائل، ولم يعرف بنو عبد مناف عند من يطلبون بدمه. ولكن كيد أبي جهل وأبي مرة لم يغن عنهما من الله شيئا؛ فقد خرج محمد على هؤلاء الفتيان يتلو آيات من القرآن، ويضع التراب على رءوسهم، وغشيت أبصارهم فهم لا يرونه، وارتدوا عما أرادوا خائبين، كما ارتد أبو جهل خائبا عن كل ما أراد.
9
على أن مكة خلصت لأبي جهل وحليفه أبي مرة حينا من الدهر حين هاجر منها محمد وأصحابه. فلم يعبد الله فيها إلا سرا، وخفت فيها صوت الحق إلى حين. وظهر فيها بغي قريش وكبرياؤها كعهدهما قبل أن يشرق في مكة نور الإسلام. ولكن من بقي من شيوخ قريش وذوي أحلامها كانوا يظنون السوء وينتظرون المكروه، ولا يشكون في أن ستكون بينهم وبين أصحاب محمد خطوب. وقد أخذت هذه الخطوب تتابع قليلا قليلا، حتى كان الخطب الأكبر يوم بدر.
هنالك ندب رسول الله أصحابه للخروج إلى تجارة قريش مرجعها من الشام، لعل الله أن ينفلهم إياها. فخرجوا، حتى إذا كانوا في بعض الطريق عرف أبو سفيان مكانهم فأرسل يستنفر قريشا لحماية العير، ونفرت قريش لم يكد يتخلف أحد من أشرافها. وساحل أبو سفيان بتجارته فأحرزها وأمن عليها من محمد وأصحابه، وأرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع إلى مكة وينبئهم أن قد أمنت العير. ولكن أبا جهل يأبى إلا أن يبلو بلاءه الأخير، فيقسم لا نرجع حتى نأتي بدرا فنأكل ونشرب ونطرب ونطعم الناس، ويعرف العرب ذلك فنسترد هيبتنا في نفوسهم. وقد استمعت له قريش لا تظن أن عليها بذلك بأسا. حتى إذا بلغوا بدرا والتقى الجمعان، عرفت قريش أنها الحرب، ونظرت قريش فإذا محمد وأصحابه لا يكادون يتجاوزون ثلاثمائة إلا قليلا. ولكن قريشا تنظر فترى قوما مشاة يريدون أن يحملوا، حفاة يريدون أن ينتعلوا، جياعا يريدون أن يأكلوا، عراة يريدون أن يكتسوا، لا يحميهم ولا يمنعهم إلا سيوفهم، فيشفق أشراف قريش من هذه البلايا تحمل المنايا. ويسعى عتبة بن ربيعة وحكيم بن حزام في قبائل قريش يحببون إليهم السلم ويدعونهم إلى القفول. ولكن ذلك يبلغ أبا جهل عن عتبة فيقول: «انتفخ والله سحره.»
7
صفحه نامشخص