قال عمرو: «إني لأرى في هذا شيئا من حق، ولكن نفسي تكرهه وتنبو عنه.»
قال الشيخ وهو يقدم إليه القدح: «اشرب أبا الحكم! فلا بد من أن نستنفد ما في الزق.» ثم استأنف حديثه فقال: «سيلقى إليهم أن الناس جميعا سواء لا يتفاوتون في الدنيا وإنما يتفاوتون في الآخرة بما يقدمون بين أيديهم من العمل، فمن عمل صالحا فله جنة لا أدري ما هي، ومن عمل سيئا فله نار لا أدري ما هي.» قال عمرو وقد رفع القدح إلى فمه فشرب منه: «وما الآخرة هذه التي تحدثني عنها؟»
قال الشيخ وهو يصب في القدح ليملأه: «حياة يزعم ابن عبد المطلب أنها كائنة بعد الموت، وأنها لا آخر لها.»
قال عمرو وقد عب في القدح عبا شديدا، وقدحت عيناه شيئا كأنه الشرر، وغشى وجهه شيء كأنه اللهب، وانبعث من فمه ضحك قبيح: «حياة بعد الموت لا آخر لها! هلم أبا مرة اسقني من خمرك هذه التي كأنها النار، أو من نارك هذه التي كأنها الخمر. حياة بعد الموت لا آخر بها! لن تخرج بزقك وفيه قطرة من شراب. حياة بعد الموت لا آخر لها! حياة بعد أن نصبح ترابا تذروه الريح!»
قال الشيخ وهو يصب في القدح ليملأه: «اشرب أبا الحكم فإنك لا تشرب خمرا ولا نارا، وإنما تشرب بغضا مذابا. فأما في حياتكم هذه الأولى فأنتم وعبيدكم وإماؤكم سواء، ليس لكم عليهم فضل. وأما في حياتكم تلك الثانية فقد تلقون أنتم في النار تصهر جلودكم وتحرق وجوهكم، ويدخل عبيدكم وإماؤكم الجنة ينعمون فيها بالطيبات وأنتم ترون! تستقونهم قطرة من ماء فلا يجودون بها عليكم لأنكم نعمتم في حياتكم الأولى، فيجب أن تشقوا وتبتئسوا في حياتكم الآخرة، ولأنهم شقوا وابتأسوا في حياتهم الأولى فيجب أن ينعموا ويبتهجوا في حياتهم الآخرة. توشك أن تسمع ذلك أبا الحكم ممن في دارك ودار أصحابك من الرقيق.»
قال عمرو: «وإن محمدا ليقول هذا للناس؟!»
قال الشيخ: «نعم! إنه ليقول هذا للناس، وإن الناس ليسمعون منه ويؤمنون له ويكثرون من حوله. وإن شئت فاغد إلى ابن أبي قحافة فسله عن ذلك، وإن شئت فاغد إلى زيد بن محمد فسله عن ذلك، وإن شئت فاغد إلى هذا الصبي علي بن أبي طالب فسله عن ذلك، فسينبئونك جميعا بأكثر مما أنبأتك به.»
قال عمرو: «ومن أين لمحمد هذا الحديث؟»
قال الشيخ في صوت يضطرب اضطرابا فيه الغيظ والخوف معا: «يزعم أن هذا الحديث يأتيه من السماء، ينزل عليه به الملك فيلقيه إليه في كلام غريب، يشبه الشعر وما هو بالشعر، ويشبه السجع وما هو بالسجع.» قال عمرو: «فاقرأ علي بعضه.»
ولم يكد الشيخ يسمع هذه الكلمة من عمرو حتى تضاءل وتضاءل، واربد وجهه وأخذته رعدة منكرة، وقال في صوت مضطرب بلسان لا يكاد يبين: «كلا! كلا! لا تطلب إلي ذلك، فما ينبغي لي أن أقرأه.»
صفحه نامشخص