الفصل الحادي والعشرون
بأي أرض تموت!
قالت أم السعد لأختها جليلة وقد قصدت إليها تزورها في دار زوجها بالشرابشيين: هنيئا لك يا جليلة، فقد والله انشرح صدري لمرأى دارك هذه في رونقها الجديد، إنها لتبدو للعين كأنها دار جديدة غير تلك الدار، التي كانت في ذلك الزقاق الخرب كجحر الضب؛ فإنها اليوم لتشرف على الطريق السلطاني، قد تخللها الهواء والنور من جميع جهاتها، وانبسط بين يديها الفضاء، فلولا أنني دخلت حجراتها ورأيت ما فيها من الأثاث ورأيتك أنت، لحسبتها دارا غير دارك تلك!
قالت جليلة باسمة: كذلك يقول زوجي، أما أنا فلم أخرج إلى الطرق منذ خرجت دارنا هذه إلى الطريق، وانهدم ما بين يديها من دور الناس، فلم أر منها إلا ما كنت أرى وهي في ذلك الزقاق، ولكنني أرى ما بين يديها من الفضاء حين أطل من شرفتها، وأرى هؤلاء الفعلة والبنائين يبنون جامع السلطان ...
قالت أم السعد وقد نهضت إلى الشرفة لترى ما تصف أختها: والله لقد اختار السلطان الغوري فأحسن الاختيار، حين خط مسجده ومدرسته في هذا الحي، واختار الله لك حين هدم ما بين يدي هذه الدار من بيوت الناس، فأخرجك من ذلك الزقاق الخرب إلى الطريق السلطاني ...
قالت جليلة وفي صوتها رقة وعطف: اسكتي بالله يا أم السعد ولا تثيري أشجاني، فهل كان ما كان من ذلك إلا على حساب البائسين من أهل ذلك الزقاق، الذين انهدمت دورهم فأصبحوا ولا مأوى لهم؛ ليتهيأ للسلطان أن يوسع مدرسته ومسجده ويشرع هذا الطريق! وماذا ينفعه المسجد والمدرسة أو يدفعان عنه من غضب الله، وقد شرد الناس وأخرب بيوتهم، وفضحهم وكانوا في ستر وتصون! ثم ماذا أجدى علينا ذلك إلا الحسد وعيون الناس، ثم هذه الضريبة التي فرضها علينا علي بن أبي الجود؛ لأن دارنا قد برزت من جحرها إلى الطريق السلطاني، وكنا والله من ذلك الجحر في نعمة!
قالت أم السعد منكرة: يا أخية! إنك لا تشكرين النعمة أبدا، ولو قد رأيت دارك اليوم حين يترامى إليها النظر من بعيد مجصصة مبيضة كدور بعض الأمراء، لعرفت قدر النعمة وشكرت!
قالت أختها: مبيضة مجصصة يترامى إليها النظر من بعيد! ليتك تعرفين مقدار ما تكلفنا من الجهد والمال في تجصيصها وتبييض وجهها طاعة لأمر السلطان، لقد أنفقنا في ذلك يا أختي ما لا طاقة لنا به، ولو كان الأمر بيدنا ما جصصنا ولا بيضنا، ولكان عندنا اليوم ما ننفق ... وتلك الأنظار التي تترامى إلى دارنا من بعيد، قد حرمت علي أن أقف إلى هذه الشرفة برهة لأتروح مما بي من الهم ... ادخلي يا أم السعد، إن عينين تنظران نحونا وأخاف أن يرانا أحد في الشرفة أو يعرف زوجي، وإنه كما تعلمين لغيور ...
وكان البناءون دائبين في عملهم، والفعلة طالعين ونازلين على تلك المصاعد الخشبية المشدودة إلى الحيطان، يحملون الآجر والحجر وهم يغنون أغنياتهم، يستعينون بالغناء على ما يجدون من عناء العمل الشاق، وقد ارتفع البناء واستطال وبدا المسجد لعيني من يراه - وإن لم يتم تمامه بعد - آية من آيات الغوري يجري حديثها على كل لسان ...
وجلست الأختان في بهو الدار تتمان ما بدأتا من الحديث.
صفحه نامشخص