هذا بعض ما قاله لي فيما بعد شهيق الأوتار، فهل فهمت منه عندئذ شيئا؟! لا أدري! ولكن كم ذا انتقش الظلام بالمشاهد الخلابة لذكر ذلك الشخص العجيب الذي لم يكن أحد يعلم ما إذا كان جمال عينيه كحلا أم صبغا من الرحمن! ذاك الشخص الذي تاهت به أفكار الناس فتجمهرت لتهتف: تبارك الله، ما أحلاك من إنسان! أتتصورون أثر هذا الرسم في مخيلة صغيرة شديدة التيقظ، وفي نفس لينة ترتعش أمام مظاهر الفن والجمال حتى لقد تبكي لمرور سحابة زاهية في الأفق الأزرق؟ •••
ولطالما سمعت هذا «الموال» بعدئذ من منشدين أصوليين وغواة يقبلون عليه إقبالهم على جميع الأدوار المصرية المشوقة. ولكن أكانوا يعلمون من هي شاعرته؟
أرجح أن تلك كانت نشوتي الموسيقية الأولى. فأبقت في أثرا، كأنما هو إشارة من روح التيمورية تنبهني. وما تبينت تلك الإشارة إلا عند مطالعة ديوانها والاهتداء إلى ذلك «الموال» فيه. فأدركت أنها حدثتني منذ زمن بعيد تلك الروح التي غاصت نفثاتها الحزينة الطروبة في أرواح المنشدين فحبست على أوتارهم ألحانا، وانطلقت على أمواج الهواء فنا وتغريدا وإبداعا. وهكذا تلك المرأة التي وقعت زفراتها في وحدة خدرها وراء الحجاب، صار الشجن والطرب منها فعالا تتناقله أجواء الأقطار وتتأثر به ليالي الأفراح في نازح الديار.
كذلك برقت التيمورية في تلك الظلمة وكان ذلك النور منها رمزا لنور آخر خطير. إن عائشة عصمت ظهرت حين كانت المرأة في ليل دامس من الجهل. فجاءت بارقا يبشر المرأة المصرية ومستقبلها.
الفصل الثاني
عصر الشاعرة
الحياة الفكرية والاجتماعية
بزغ القرن الخامس عشر على ربوع الغرب فجرا ما برح ينتشر ويعمم حتى شمل بنوره نهضة التجدد الكبرى. وما تولى إلا وقد جاء بحادثين بدلا حظ البحر الأبيض المتوسط وحظ مرافئه في الحركة التجارية والعمرانية. وهما اكتشاف فاسكو دي جاما طريق الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح، بعد أن شق كولمبس البحار وصولا إلى الأقطار الأمريكية. وبينا التطور يتتابع في الغرب حثيثا سواء في العلم وأسباب المواصلات وامتزاج الشعوب والصناعة والتجارة والثروة والحرية الفردية والكرامة القومية - كانت مصر، وقد حرمت من مرور تجارة الشرق، تتقهقر ببطء حتى انقطعت العلاقات بينها وبين العالم. وظلت ثلاثة قرون يحكمها بالاسم ولاة عثمانيون وتدفع الجزية السنوية إلى تركيا إلا أنها تعثو فيها تلك الفئة الطاغية من المماليك «البكوات». ففشت في أنحائها الخزعبلات والأوهام، واشتد العوز مهددا بالأمراض والمجاعات. والدول التي تتنافس الآن في اكتساب صداقاتها كانت قد نسيت حتى الوجود من هذه البلاد الفريدة بتربتها وتاريخها وحضارتها العريقة، الفريدة بموقعها الحربي المنيل النفوذ السياسي والرواج التجاري لجمعه بين القارات الثلاث وسيطرته على طريق المشرقين.
أي عجاجة لا تثير أعمال الرجل العظيم! هبط نابليون الشرق يستغله ويقيم عليه الركن الأول من عرش، أراد أن يخيم ظله على الشرق والغرب جميعا. فهبت الدول تقاتل الجبار وتتحالف لهزيمة جحافله. وصار القطر المهجور محجة للغايات؛ لأن البطل أدخله في خريطة أطماعه.
جاءت القوة العثمانية بقيادة القبطان حسين باشا وتكاتفت والحملة الإنجليزية في الرحمانية فزحفتا معا على القاهرة. فسلم الفرنسيون نهائيا في سبتمبر 1801 بعد الاحتلال بثلاثة أعوام دون جني أية فائدة حربية. وكم من عمل يؤتى في سبيل غاية تفشل، فإذا به موفور العائدة لغاية أخرى!
صفحه نامشخص