فقال لي بثقة: ما الكهنة إلا دجالون، يستعبدون الضعفاء، وينشرون الخرافات، وينهبون الأرزاق. معابدهم مواخير، وقلوبهم ثملة بحب الدنيا ...
فاكتشفت فيه قوة حقيقية أخفاها عن الأعين تهافت بنيانه، وشجاعة لا يحظى بجزء منها حور محب قائد الحرس أو ماي قائد الحدود. وقد حسبه أناس لغزا لا يحل، لكنه وضح بالنسبة لي مثل نور الشمس. لقد فني في حب إلهه، وأحبه الإله، فكرس حياته لخدمته ملقيا بالعواقب جانبا، فلم يلتبس علي قرار من قراراته ولا موقف من مواقفه. لم أدهش لسلوكه في رحلته المشهورة حول عالم إمبراطوريته، ولم أدهش لتمسكه برسالة الحب والسلام حتى في أحرج الظروف، ولم أدهش لموقفه الأخير عندما تخلى عنه أقرب المقربين إليه. كان يعيش في رحاب الإله ويصدع بأمره، ولا يبالي بعد ذلك بما يحيق به؛ إذ كيف يمكن من ينغمس في الحقيقة أن يكترث لمكر الساسة ودهاء العسكريين؟! وقد رموه بالخيال والحلم والجنون، فكان هو العائش في الحقيقة، وكانوا هم الخياليين الحالمين المجانين الغارقين في أوهام الدنيا الفاسدة. ولم يكن العرش يهمه كما يهم الملوك العاديين، بل إنني أذكر أنه عندما دعي من رحلته لتولي العرش بعد وفاة أبيه، تجهم وجهه وتساءل: ترى هل تشغلني الشواغل عن إلهي؟
فقلت له بحماس صادق: بل إنك مدعو يا مولاي لوضع قوة العرش في خدمة الإله، كما التزم أجدادك بخدمة آلهتهم الزائفة.
فسري عنه وتمتم: نطقت بالحق يا مري رع، فكما قدموا لآلهتهم قرابين من البشر المساكين، سأقدم قوى الشر قرابين لإلهي، محطما الأغلال التي يرسف فيها من لا حول لهم.
واعتلى العرش ليخوض أشرس معركة خاضها ملك، ولكن في سبيل الحقيقة والحب والسلام وسعادة البشر، وأثبت في غمارها أنه أقوى عشرات المرات من تحتمس الثالث نفسه، وكان رجاله يمثلون أمام عرشه فتصرف نفرتيتي أمورهم اليومية، أما هو فلا يني عن إعادة خلقهم من جديد ليكونوا جديرين حقا بالنعمة الإلهية والنبل البشري. وتجلى سحره كأقوى ما يكون في نشر دعوته بالأقاليم، وقد فتن الناس به، وسكروا بخمر رسالته، وألقوا عليه محبتهم مع الأزهار والرياحين. وسكت مري رع ليتنهد طويلا، ثم واصل حديثه: ثم جاءت سحب الأحزان يتبع بعضها بعضا مسوقة بأنفاس الحقد في داخل البلاد وخارجها، وتلقاها كل رجل بحسب قوة إيمانه، ولم يعبأ بها مولاي، وراح يردد: لن يخذلني إلهي.
وقال لي يوما في المعبد: الرجال ينصحونني بالاعتدال، وإلهي يأمرني بالإيمان، فأيهما أتبع يا مري رع؟
ولم يكن سؤاله الساخر في حاجة إلى إجابة. ولما مضت الأزمة في الاشتداد جاء حور محب لمقابلتي في المعبد، وقال لي: أيها الكاهن الأكبر، إنك أقرب الرجال إلى الملك.
فأجبته وأنا أحدس ما سيقول: تلك نعمة الإله علي.
فقال بصراحة: الأمور تقتضي تغيير السياسة.
فقلت له بثبات: أستمع لصوت الحقيقة وحدها.
صفحه نامشخص