الجزء الأول من كتاب العفو والاعتذار تأليف أبي الحسن محمد بن
محمد بن عمران البصري
صفحه ۲۵
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) باب العفو والاعتذار
صفحه ۲۷
قال الشيخ أبو الحسن محمد بن محمد بن عمران البصري: اعلم أن العفو من الله عز وجل عن العباد تجافيه [.. .. .. .. ..] وهو من العباد ستر بعضهم على بعض. يقال: ((عافى الله فلانا)) أي: أعفى الله فلانا. كما يقال: ((قاتله الله)) أي: قتله الله. ومعنى ((أعفاه الله)) أي جعل له استطاعة يعفو بها، أي: يلبس بها العافية وأصل ((الاعتذار)) من ((عذرت الدابة))، و((عذرته)) أي: جعلت/ له عذارا يحجزه عن الشراد.
فقولهم: ((اعتذر الرجل فعذرته)) أي: احتجز بالقول وغيره مما قذف به من الجناية، ((فعذرته)) أي: جعلت له بقبول ذلك منه حاجزا بينه وبين العقوبة أو العتب عليه. يقال: ((عذرته أعذره عذرا ومعذرة وعذرة وعذرى)) قال الشاعر:
صفحه ۲۸
قالت هنيدة لما جئت زائرها ... هلا رميت ببعض الأسهم السود لله درك إني قد رميتهم ... لكن حددت ولا عذرى لمحدود
ويقال في المثل: ((العذرة طرف البخل)) أي: الاعتذار. وفي المثل: ((أبى الحقين العذرة)) يضرب للرجل يعتذر/ بأن ليس عنده وهو عنده. وأصله أن رجلا ضاف قوما، وقد حقنوا لبنا لهم، فاعتذروا إليه، وقالوا: ليس عندنا ما نقريك. فقال: أبى الحقين العذرة، أي: اللبن الذي حقنتموه يأبى اعتذاركم إلي ألا شيء عندكم. يقال: ((اعتذرت من الذنب)) و((تعذرت منه)) بمعنى واحد. وقال الشماخ يصف ناقة:
صفحه ۳۰
كأن ذراعيها ذراعا مدلة ... بعيد الشباب حاولت أن تعذرا أي: تعتذر. وقال آخر في مثله:
كأن يديها حين يقلق غرضها ... يدا نصف غيرى تعذر من جرم
أي: تعتذر. وقولهم: ((تعذر علي الأمر)) و((تعذرت/ الحاجة)) من هذا، أي: احتجز أن يقضى. ويقال: إن البكر من النساء سميت ((عذراء)) لأنها متعذرة الإتيان. ويقال: سميت ((عذراء)) لأنها بعذرتها بعد. و((العذرة)): الحاجز من اللحم والدم الذي يشد مسلكها. يقال: ((فلان أبو عذرة فلانة وأبو عذرها)) إذا كان هو افتضها، ففرج تلك العذرة. وأكثر ما يقال: ((عذراء)) للبكر التي قد بلغت مبلغ النكاح، ألا ترى قول النابغة:
صفحه ۳۱
فنكحن أبكارا وهن بإمة ... أعجلنهن مظنة الإعذار
أي: البلوغ الذي يكن به عذارى. وإنما يصف نساء/ سبين، فنكحن غصبا قبل أن يظن لهن أنهن عذارى. ويقال: ((الإعذار)) -ها هنا-: الختان. يقال: ((أعذرت الغلام)) إذا ختنته. فمن زعم أن ((الإعذار)) في بيت النابغة: الختان رواه:
*فنكحن أبكارا وهن بآمة*
أي: بعيب، لأنهن غير مطهرات. و((الآمة)) بهمزة ممدودة، وهي -ها هنا- العيب. قال عبيد:
مهلا أبيت اللعن مهلا ... إن فيما قلت آمة
ومن روى: ((بإمة)) مشددة الميم بهمزة واحدة مكسورة فإنه أراد: النعمة.
صفحه ۳۲
يقال: ((أعذرت الجارية والغلام إعذارا)) إذا قطعت ذلك منهما./ ويقال للطعام الذي يعمل في الختان: ((الإعذار)) قال الراجز:
كل الطعام تشتهي ربيعة ... الخرس والإعذار والنقيعة
صفحه ۳۳
ويقال للأتراب من الناس: ((هم عذار عام واحد)). ويسمى سقوط الحنك الأعلى على الأسفل حتى يحجز اللهاة أن يسوغ في الحلق طعام أو شراب: ((العذرة)) وهو الداء الذي يعالج منه النساء الصبيان برفع لهواتهم بالإصبع. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال لأم قيس بنت محصن: ((لا تعذبن أولادكن بالدغر)) أي: برفع اللهاة، وأمرها أن تدخن الصبي بالعود الهندي. يقال: ((عذرت/ الصبي أعذره عذرا)) إذا رفعت عذرته بإصبعك، قال جرير:
غمز اين مرة يا فرزدق كينها ... غمز الطبيب نغانغ المعذور
((النغانغ)): لحم اللهاة، واحدها ((نغنغ)). و((العذرة)) خصلة الشعر التي بين معرفة الدابة وناصيته من هذا لأنها حد حاجز بين شيئين، قال العجاج:
*ينفضن أفنان السبيب والعذر*
صفحه ۳۴
ويقال لفناء الدار: ((عذرة)). قال الحطيئة يهجو قومه:
لعمري لقد جربتكم فوجدتكم ... قباح الوجوه منتني العذرات
/ يريد منتني الأفنية بما يطرحون فيها من الأقذار. وقال كثير:
إذا سلف منا مضى لسبيله ... حمى عذرات الدار من يتخلف
وفي الحديث: ((اليهود أنتن خلق الله عذرة)) يريد أفنية. وإنما سمي ما يخرج من الإنسان: ((عذرة)) من هذا، أنهم كانوا يطرحونه بأفنية الدور، فسمي باسم الموضع الذي يلقى فيه، كما سميت المزادة التي يحمل فيها الماء ((راوية)). وإنما ((الراوية)): الجمل الذي يحمل مزادة الماء فسميت باسم الجمل.
و((العذارة)): القطعة المستطيلة من الأرض، قيل لها/: ((عذار)) كأنها حاجز بين شيئين، ويجمع ((عذر)). وينشد أصحاب المعاني أبياتا لا أدري لمن هي؟.. فيها:
صفحه ۳۵
عذبوا شمسهم يومهم ... بتباريح فآبت في عذر
يريد: أن هؤلاء القوم أثاروا الغبار فطمسوا به عين الشمس يومهم أجمع، فكأن الشمس لكثرة الغبار المتكاثف الذي قد غطاها ((آبت في عذر)) أي: قطع من الأرض مستطيلة، فكأنها معذبة بسترهم إياها. و((عذارا دجلة)): جانباها اللذان يحجزان الماء فيها أن يفيض على وجه الأرض.
و((العاذر)): ميسم من مياسم الإبل، قال الفرزدق:
صفحه ۳۶
وكم من قلوص قد تمششت نقيها ... إليك بها في موضع الرحل عاذر وإنما سمي هذا الميسم ((عاذرا)) أن بني الأب يكون ميسم أبيهم واحدا ما لم يقتسموها، فإذا وقعت القسمة قال أحدهم لصاحبه: ((أعذر عني))، أي: سم ميسما يعرف به إبلي من إبلك. فكأن قول بعضهم لبعض: ((أعذر عني)): اجعل لنفسك علامة تكون حجازا بين إبلي وإبلك. ويجمع ((عاذر))هنا على ((عواذير))، قال أبو وجزة السعدي:
إذ الحي والحوم الميسر وسطنا ... وإذ نحن في حال من العيش صالح
وذو حلق يقضي العواذير بينه ... يلوح بأخطار عظام اللقائح
/ فقوله: ((يقضي العواذير بينه))، أي: يعرف كل إنسان إبله، فتحجزه عن إبل أخيه.. يدل على ما فسرت من اشتقاقه. قال الآخر -وأحسبه محدثا-:
صفحه ۳۷
فخذ القليل من البخيل وذمه ... إن البخيل بما أتى معذور
((معذور ها هنا: موسوم السمة التي تسمى ((عاذرا))، لا يريد: ((معذور)) من العذر. ويقال: إن ((معذورا)) ها هنا من ((عذار الدابة)). ويسمى موضع العذار من الدابة: ((المعذر))، قال امرؤ القيس:
حر المعذر أشرفت حجباته ... ينضو السوابق زاهق فرد
وموضع العذار من الدابة من الإنسان يقال له: ((العذار))./ يقال: ((غلام معذر)) إذا نبت الشعر على عذاره.
ويجوز أن يكون سمي ذلك الموضع ((عذارا)) لأنه حد للشعر لا يتجاوزه، قال الشاعر -وهو جرير-:
صفحه ۳۸
أجدك لا يصحو الفؤاد المعلل ... وقد لاح من شيب عذار ومسحل و((العذرة)): عذرة الجوزاء، وهي خمسة كواكب بيض أسفل من الشعرى العبور في المجرة تقابل سهيلا، سميت ((عذرة)) -فيما أرى- لأنها آخر كواكب، قال الساجع: ((إذا طلعت العذرة، لم يبق بعمان بسرة، إلا رطبة أو تمرة)). ويقال للجوزاء: ((العذراء)) بما فيها من الكواكب/ التي يقال لها: ((عذرة الجوزاء))، كما يقال: ((فتاة عذراء)) إذا كانت بعذرتها، ويقال: سميت الجوزاء ((العذراء)) لأنها في صورة إنسان على كرسي، وعليه تاج. قال الشاعر يصف ديارا خربت بنوء العقرب وبنوء الجوزاء.. برياح نوء هذه، وأمطار نوء تلك:
كساهن أري القلب أهداب ثوبه ... ولم تدع العذراء فيهن معلما
((الأري)): عسل النحل، يقال: ((أرت النحل تأري أريا)).
صفحه ۳۹
وقال بعض اللصوص يذكر تعفيتها الآثار:
جزى العذراء عنا الله خيرا ... كما أغنت عن الحبل الجذيم
هذا لص كان يخاف أن يقص أثره فكان يجر خلفه/ حبلا مقطعا ليعفي أثره، فلما طلعت الجوزاء استغنى بتعفية نوئها الآثار عن الحبل. ويقال: أراد الحبل الذي يصعد به النخل، يقول: هي تنثر الرطب بشدة الريح في نوئها، فتغني عن ارتقاء النخل بالحبل.
صفحه ۴۰
ويقال: ((عذرت في الأمر -إذا لم يبالغ فيه- تعذيرا، فأنا معذر)). وفي القرآن: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم}. و((أعذرت في الأمر)) إذا أتيت فيه ما يكون لك به عذر، وإن لم تبلغ كل إرادتك. وقد قرئ ((المعذرون)) بالتخفيف./ وفي الحديث: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم))، أي: إذا نزل بهم بلاء يعلمون أنهم قد استحقوه بسوء فعلهم، ولم يقولوا: لم نعذر ولم ننذر، أي: يعذرون الذي يعذبهم.
صفحه ۴۱
ويقال: ((أعذرت إلى فلان في كذا)) إذا تقدمت إليه على جهة النهي والزجر فعذر، أي قبل نهيي وزجري، فالزاجر هو ((المعذر)) والمزجور هو ((العاذر)). قال الأخطل:
فإن تك حرب ابني نزار تواضعت ... فقد عذرتنا في كلاب وفي كعب
وقال جرير:
أعذرت في طلب النوال إليكم ... لو كان من ملك النوال ينيل
((أعذرت)) أي: بلغت عذرا في طلبي النوال إليكم وإن لم تنيلوا.
وإذا قلت أعذرت إلى الرجل بمعنى زجرته، فقبل زجري قلت: ((هو عاذر وعذيري)). مخرجه: أسمعته فهو سامع وسميع ، وأعلمته فهو عالم وعليم. وكذلك ((عذيرك)): الذي قد وعى نهيك وزجرك له إذا أعذرت إليه. قال عمرو بن معد يكرب:
صفحه ۴۲
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
كأنه قال: إنه منهيك، أو ازجر مزجورك، وهو ((العذير)) على ما بينت من اشتقاقه. وقال ذو الإصبع العدواني:
عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض
وجرى: ((عذيرك من فلان، وعذيري من فلان)) في كلامهم نصبا مجرى المثل المبني، ويقال: إن نصبه على معنى المصدر مثل قولهم: رويدك، وقوله: (فضرب الرقاب)، ومعناه: التوجع لمن توده من تركه قبول نهيك وزجرك له حين تنهاه إذا أعذرت إليه.
صفحه ۴۳
فأما قول العجاج:
*جاري لا تستنكري عذيري*
فإنه يريد: حالي التي أنا فيها، وهو يرجع إلى تأويل الأول. وكذلك قول عدي بن زيد:
إن ربي لولا تداركه الملك وأهل العراق ساء العذير
والأفصح في هذا أن يقال: ((عذيري من فلان)). كذا جاءت هذه اللفظة، وسمعت عن فصحاء العرب، لا كما يقول من لا معرفة له باللغة: ((من عذيري من فلان، يا من عذيري منه)). قال:
صفحه ۴۴
عذيري من سعد بن زيد وجندع ... كما تركاني بين هرشى وودان
وقال حارثة بن بدر الغداني:
عذيري من أخ إن أدن شبرا ... يزدني من مباعدة ذراعا
ونحو: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم)) قول الأخطل:
صفحه ۴۵
وما تركت أسيافنا حين جردت ... لأعدائنا قيس بن عيلان من عذر
يقول: حين أوقعنا بهم لم نأتهم ختلا، ولا طرقناهم ليلا فيكون لهم عذر، يقولون: لو علمنا لم يوقع بنا، بل لقيناهم مجاهرة وهم يعلمون.
وهذا مثل قول الآخر:
إذا نصبنا لقوم لا ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
وقد قيل في بيت الأخطل غير هذا، يقول: قتلنا منهم ولم يقتلوا منا فيكون لهم بذلك عذر إذا/ فاخرناهم.
فأما قول حاتم الطائي:
صفحه ۴۶