فما فرغ الأمير من قراءته إلا وقد ملكت الحيرة جهاته ووقف له اليأس في السبل والمذاهب؛ فأطرق برهة لا يملك كلاما، و«بنتؤر» يلاطفه ويسليه ويعلله ويمنيه، ويدعوه ليترك الأمر حتى ينظرا فيه، حتى إذا هب من إطراقه، قال: إن الموقف لحرج يا «بنتؤر». قال: نعم، شر موقف يا مولاي، ولكن (الخفيف):
غالب الأمر بالتوكل غالب
واطلب العون في جميع المطالب
رب أمر به تضيق المساعي
لك منه إلى الفضاء مذاهب
قال: ألا تذكر أن أخي وضع يده وهو في الخامسة عشرة في يد عذراء الهند، على أن لا يقترن بسواها ما داما كلاهما على قيد الحياة. قال: أذكر ذلك يا مولاي. قال: إذن فقبيح بابن «رمسيس» أن ينكث العهد. قال: قبيح، ثم قبيح. قال: وتذكر أيضا أننا كلانا وضعنا يدنا في يد هذا الشعب البائس المحتقر المملوك لفرقة الكهنة، أننا ننقذه من يدهم، ونرد عليه حقوقه المسلوبة. قال: أعرف ذلك حق المعرفة يا مولاي، وأعلم أن اقتران ولي العهد ب «آرا»، لو حصل، يثنيه لا محالة عن العمل، ويحل جميل نظام هذا الأمل. قال: إذن فعار على ابن «رمسيس» أن ينقض الميثاق. قال: نعم، عار عليه إذا فعل عظيم. قال: ولكنه الأب يقترح والملك يريد، وعار على ابن «رمسيس» أن يعق أباه، ثم عار عليه أن يعصي ملكه. قال: نعم، عاران لا ينمحيان. قال: فكيف العمل إذن؟ وما وجوه الحيل؟ وأخي فوق هذا وذاك عاشق، والعشق أكبر ملكا وأعز سلطانا من أبينا على فخامة عرشه، فلا بد ل «آشيم» أن يذعن لأحكامه، كما أذعن لها الأولون وسيذعن الآخرون. قال: كل هذا يا مولاي معقول، وأخوك وأنت كلاكما جدير بما تقول، ولكن الرأي عندي أن نبادر فنغتنم فرصة تغيب الأمير فنجيب الملك بأنه ما زال ولده البار، الخاضع المطيع في الإعلان والإسرار، وأنه أبوه أولى به، فليدبر له ما يشاء ويختار، حتى إذا خرج الملك من حالة الغضب وعادت عواطف الأبوة فاطمأنت بمكانها من فؤاده الرحيم، وما أسرع ما تعود هذه العواطف! شرعنا حينئذ نتلاطف له في الاستمهال ونذهب معه في كل مذهب من المطال، حتى نستقر والحوادث على حال. قال: قد رأيت في الأمر رأي حكمتك يا مؤدبنا العزيز، فاكتب إذن إلى الملك بهذا المعنى وعجل.
ثم إن الأمير التفت فوقع نظره على الحاجب، وكان قد حضر ليعرض أمرا فسأله: هل حاجة؟ قال: حاجة الجميع سلامة الأمير، بالباب يا مولاي أربعة من الفرسان، يزعمون أنهم رسل الشقي «طوس» إلى مولانا، في أمر ذي بال، فاستبشر الأمير لذكر هذا الاسم، وتهلل وقال: يا مرحبا ب «طوس»، وأهلا وسهلا برسله، فليدخلوا، ثم أقبل على «رادريس» يقول: ليس كذاك يا حارسي الهمام. قال: بلى يا مولاي، ونعم الصاحب على البعد «طوس». أما شخصه فلم نره، وأما أفعاله فلم نبل منها إلا الخير خصوصا مولاي «آشيم»، فإنه مدين له بالحياة مرتين، منذ قدومنا لمنفيس. قال: وأنا لأجل أخي أحبه ولا أحب أن يتعرض له ولا لرجاله أحد ما دمت مكان أخي في هذا البلد. قال: وهبك عاديته يا مولاي، فلن تجني إلا كما جنى الولاة من قبل أخيك، ثم تكون قد أرجعت البلاء للسكان، وأعدت الحال أسوأ مما كان.
وعند ذلك أقبل الحاجب وفي أثره الفرسان الأربعة، وقد تجردوا عن سلاحهم بالباب، وجعلوا يدهم اليمنى على الكتف الأيسر، وأرسلوا اليسرى خافضي الرأس منحنين، إشارة إلى الخشوع والإجلال، وعلامة على تمام الطاعة وكمال الامتثال. فلما رآهم الأمير أقبل عليهم وتلطف، وبالغ لهم في الخطاب، ثم شرع يسألهم عن «طوس» ويستخبرهم عن أحواله حتى إذا اطمأن بهم الموقف واستأنسوا، طلب إليهم أن يعرضوا حاجتهم، فأخرج أحدهم كتابا مختوما ودفعه إليه، فتناوله ففضه، ثم دفع به إلى «بنتؤر» ليقرأ فقرأ:
من الشقي «طوس» صاحب الشياطين، وحليف المردة الجهنميين، إلى سيده ومولاه سليل الشمس وجار الآلهة في مهده، ابن «رمسيس» الثاني وولي عهده، ووارث التاجين والعرش من بعده، الأمير «آشيم»، حاكم منفيس والأقاليم الوسطى.
مولاي، فتاة الهودج التي يتقدم بها رجالي بين يدي جنابك العالي، هي عذراء الهند . (فعند سماع هذا الاسم أجفل الأمير واضطرب وعلا وجهه الاصفرار، فدنا «بنتؤر» عندئذ منه وقال همسا: تجلد يا مولاي، وقم لأخيك في هذه الحادثة مقام شخصه، وصن له عشيقته فيما تصون من معالي هذا المركز الذي خصك بثقته يوم رحيله، فلم يأتمن سواك عليه، ثم عاد فقرأ):
صفحه نامشخص