كان رده مفاجأة لي، حاولت أن أخفي تعجبي وآثرت الصمت كي أترك له ولي فرصة تأكيد الخبر أو نفيه، عم جمعة كان فطنا بما يكفي كي يعرف ما يدور برأسي. - سعيد ابني. إنه ليس من صلبي لكنه جزء مني وأنا جزء منه، وهو من تبقى لي في هذه الدنيا.
الأمر إذن لم يكن يتطلب رغيفا وطبقا من الفول أتناولهما واقفا، فأنا في أمس الحاجة إلى سيجارة وجلسة طويلة. وجلسنا أنا وعم جمعة على إحدى درجات سلم الجامع الكبير.
مات والد سعيد وهو ما زال طفلا في العاشرة من عمره، يحمل ذكرى أبيه وحيدا بلا أخ ولا أخت. كان المعاش الذي تركه الأب يقيه وأمه ذل السؤال وإن لم يكفل لهما رغد العيش. بعد عام واحد من وفاة زوجها تزوجت الأرملة الناضجة بشاب يصغرها بسنوات، وكأنها جلبت لابن الحادية عشرة من عمره غريما متحفزا لا أبا. كانت تتغاضى عن وحشية زوجها في التعامل مع الصبي، وكانت تتعامى عن رؤية دموع سعيد تستعطف الأمومة فيها أن ترحمه؛ فقلبها كان يقطن مكانا أبعد كثيرا من صدرها. أجبره زوج أمه على العمل وترك المدرسة على أن يأتيه بكل ما يحصل عليه من أجر لقاء بقائه بالمنزل، وخضع الصبي، فازدادت شهية زوج الأم لمال لا يكد لأجله وطالبه بالمزيد، ولأن سعيد كان أجيرا فقد كان يحصل فقط على ما يرضى صاحب العمل أن يمنحه، وعندما حاول أن يجد عملا آخر أو عملا إضافيا، علم صاحب العمل بأمره فطرده، وطرده زوج أمه من المنزل أيضا وكأنما وجد الفرصة السانحة لنيل مأربه. لم تعترض زوجته، ولم تراجعه في الأمر، ولم تركع أمام قدميه تستجديه العفو والرحمة، بل لم تربت حتى على كتف ابنها وهو يغادر منزله، فبصق سعيد في وجهها وانصرف.
يحكي عم جمعة أنه تعرف على سعيد في نفس اليوم الذي ترك فيه منزله. كان عم جمعة يعمل خادما لزاوية، وفي الوقت نفسه كان يدرب الصغار على حفظ القرآن. وفي إحدى الليالي توجه كعادته كل يوم لفتح الزاوية ورفع أذان الفجر، فوقع بصره على الصبي يرقد نائما أمام الباب مباشرة، أيقظه بهدوء، فانتفض سعيد من نومه مذعورا، ربت عم جمعة على كتفه وطلب منه أن يتوضأ ليشارك الجماعة صلاة الفجر. انفض المصلون وتلكأ سعيد في الانصراف، فجلس عم جمعة قبالته يسأله برفق عن حاله.
فقد عم جمعة زوجته وأبناءه عندما انهار المنزل على من فيه، وظل يعيش وحيدا لسنوات، حتى وجد سعيد، فأصبح منذ اليوم الأول أعز ما يملك في دنياه، وكان سعيد أوفى الناس نحو منقذه. حفظ سعيد القرآن كاملا عن عم جمعة في وقت وجيز جدا أثار دهشته، ورأى الرجل فيه صبيا نابها ومن الظلم أن يعده ليخلفه في الزاوية أو يحترف قراءة القرآن على المقابر. تفرغ سعيد بالكامل لمذاكرته وتقدم لامتحان الابتدائية ثم الإعدادية (منازل)، ورفض أي عون عرض عليه لمساعدته في دروس الثانوية العامة، واجتاز اختباراتها من المرة الأولى والتحق بكلية العلوم. جاءه خبر وفاة أمه فاكتفى بأن قال ممتعضا: أراحتني. رجاه عم جمعة أن يذهب لتلقي العزاء، فأقسم ألا يفعل.
تفاصيل الحكاية كانت تشدني، لكن الأولى وقتها أن أطمئن على حاله وأعرف سبب تغيبه. قاطعت عم جمعة: ما الذي أغضبه منا؟
فتعجب الرجل: ظننت أنه هو الذي أغضبكم.
رافقنا سعيد في الرحلة التالية إلى المصيف، ولاحظنا جميعا أنه يتكلف في سلوكه وينتقي كلماته على غير عادته، كان يحاول جاهدا أن يبدو كما عهدناه فبدا غريبا جدا. تجاهلنا الأمر حتى لا نفسد ليلتنا وعزمنا على الذهاب لتناول الطعام في أحد المطاعم كما نفعل في كل لقاء، وفوجئنا بسعيد يعتذر عن مرافقتنا. واجهناه كلنا مستهجنين اعتذاره، تجاهل ما قلناه، وطلب منا أن نصطف جالسين أمامه كتلاميذ مدرسته، ففعلنا ممنين أنفسنا بفاصل فكاهي يروح عنا. وقف سعيد في مواجهتنا متعمدا أن يكون جادا، وهو نادرا ما يفعل، قال: سؤال بسيط وليس قصقوصة: لماذا يغض رجال الأمن أنظارهم عنكم؟ وأدهشنا السؤال فهو يوحي بإساءة جسيمة لنا، ولم يرد أحد، وانتظرناه حتى يفصح عن غرضه. أكمل وكأنه موقن أنه لن يجيب أحد: كنت أظن أن أجهزة الأمن في بلدنا غافلة عنكم، لكنني تأكدت فيما بعد أنهم يجيدون عملهم، ويدركون جيدا ما يفعلون. إنكم أكثر ملكية من الملك، تصدعون رءوسنا بالثورة والاشتراكية والعدالة والانتصار للفقراء، بينما تعيشون في بذخ وتشاركون الأغنياء في سرقة نصيب الفقراء والتعالي عليهم، وتهيبون بالحكام أن يمعنوا في إفقار الناس لتطوير أدوات الإنتاج، وأن يتمادوا في إذلالهم كي ينضج وعيهم الطبقي. لا ترون حرجا في أن تمروا إلى المستقبل فوق جثث الملايين من البؤساء!
عقب أحدنا: لا تنتظر منا أن نكون أعضاء في جمعية خيرية.
رد سعيد: ولا تنتظر أنت يا سيد لينين أن يصدقكم أحد.
صفحه نامشخص