عد تنازلي: تاریخ رحلات الفضاء
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
ژانرها
على الجانب الآخر، ربما كان الاستخدام الحاذق لمقعد النجاة يبرهن على حضور ذهن الطيار وهو ما يجعله مؤهلا للانضمام إلى رواد الفضاء. يذكر تشاك ياجر تدريبا على نموذج مطور من طائرة «إف-104»، كانت مقاعدها تنطلق إلى أعلى، ومن ثم كان على الطيارين ديفيد سكوت ومايك آدامز الضغط على كابح الوقود بأقصى قوة للحيلولة دون سقوط الطائرة على الأرض. توقف المحرك، واندفع آدامز خارج مقعده الخلفي، بينما ظل سكوت في الطائرة وواصل قيادتها.
كتب ياجر قائلا: «أثار الأمر دهشتي؛ ففي لحظة، اتخذ كلا الطيارين قرارا صائبا تماما، لكن بمساري عمل مختلفين.» دفع التصادم المحرك إلى قمرة آدامز، ومن ثم كان التصادم سيودي بحياته إذا ظل موجودا في قمرته، بينما كان سكوت سيلقى حتفه إذا قرر الانطلاق بمقعده، نظرا للضرر الذي لحق بالمقعد. واصل سكوت رحلته ليسير على سطح القمر. قاد آدامز «إكس-15» لاحقا، على الرغم من أنه لقي حتفه عندما خرج الأمر عن السيطرة عند سرعة 5 ماخ وتحطمت الطائرة.
كان من الممكن أن يصطبغ رواد «ميركوري» بالأجواء العامة لهذه الحقبة، لولا حرص ناسا الشديد على تقديمهم بوصفهم رموز الحقيقة والعدالة والنهج الأمريكي. بدأ التعامل معهم على هذا النحو في أول مؤتمر صحفي لهم، في أبريل 1959. وقف جون جلين، الذي كان أول من انطلق في مدار فضائي، وألقى خطابا قصيرا حول الرب والأمومة وفطيرة التفاح، وكان يعني كل كلمة مما قال. تناولت الصحافة تلك الكلمة في نهم. كتبت مجلة «تايم» بحماس: «من بين أمة يبلغ تعداد سكانها 175 مليون نسمة، تصدر المشهد الأسبوع الماضي سبعة رجال قدوا من الحجر نفسه الذي قد منه كولومبس وماجلان ودانيال بون وأورفيل وويلبر رايت.»
على الرغم من أن مركبة «ميركوري» قد صورت في وسائل الإعلام بوصفها مجرد تجربة في العلم والتكنولوجيا، كانت العلاقات العامة حاضرة عادة. ضم المسئولون السبعة عن «ميركوري» مسئولا صحفيا في ناسا على الفور، وهو المقدم جون «شورتي» باورز، الذي صار يعرف باسم «رائد الفضاء الثامن». لم تكن هذه إلا بداية؛ إذ سرعان ما أدرك مسئول العلاقات العامة في المشروع حاجته إلى المساعدة، وخاطب أحد محامي واشنطن البارزين، ويدعى ليو ديورسي. كان ديورسي على دراية جيدة بعالم المسرح والسينما والاستعراضات. كان من بين عملائه عدد من المشاهير، مثل آرثر جودفري. عرض ديورسي أن يبيع إلى المجلات حقوق نشر القصص الشخصية لرواد الفضاء، وعقد صفقة مع مجلة «لايف» كان من ثمرتها عقد بقيمة 500 ألف دولار أمريكي. كانت هذه الصفقة أفضل كثيرا من الشهرة والمجد؛ لأن رواد مركبة «ميركوري» كانوا موظفين حكوميين، من الدرجة 12 إلى الدرجة 15 في هيكل الوظائف المدنية العامة، يحصلون على رواتب مبدئية تتراوح بين 8330 دولارا أمريكيا و12770 دولارا أمريكيا. أتم ديورسي الصفقة في وقت مبكر من شهر أغسطس، ووضعت مجلة «لايف» صورة رواد الفضاء على الغلاف في عدد 14 سبتمبر، وقدمت تغطية في ثماني عشرة صفحة متقابلة بعنوان «مستعدون لصنع التاريخ». بعدها بأسبوع، تناولت المجلة زوجات رواد الفضاء تناولا مماثلا؛ حيث نشرت صورة ملونة على الغلاف أجريت عليها تعديلات طفيفة لإزالة أي تغضنات أو تجاعيد، وكتبت موضوعا في أربع عشرة صفحة متقابلة، تحت عنوان جديد «بطلات سبع وراء رواد الفضاء».
لم ينبهر ياجر بالأمر؛ إذ كان اسمه كطيار يفوق كونه رمزا، وخلال ظهوره العلني الأول ممثلا عن القوات الجوية أشار بطريقته المفتقرة إلى اللباقة إلى أن «قردا سيسافر في أول رحلة على متن ميركوري». كان على المرء أن يتصور عالم ياجر لاختبارات الطيران حتى يدرك الحجم الحقيقي لتعليقه؛ ففي عالم كذلك، لم يقترب الكثير من الطيارين الماهرين من طائرات نفاثة حقيقية. في حقيقة الأمر، كان ياجر لطيفا في تعليقه أكثر من اللازم؛ إذ كان من المقرر أن تتم الرحلة الأولى بنظام التحكم الآلي، دون أن تلمسها يد حتى وإن كانت غير بشرية. لكن تعليق ياجر جاء في غير موضعه.
لم تكن مداهنة الأبطال وتملقهم مسألة جانبية في حالة مركبة «ميركوري»، مثلما لم تكن أيضا منتجا ثانويا عرضيا. فقد كانت مسألة جوهرية بالنسبة إلى المشروع، وذلك لسبب بسيط، وهو أن المراد من رواد الفضاء كان أن يضفوا طابعا بشريا على البرنامج الفضائي، الذي كان بديلا عن سباق التسلح، وكان يرمز إلى الأمل في أن تتمكن أمريكا من مواجهة التهديد السوفييتي. لم تستطع النفسية البشرية استيعاب هذه الأمور العظيمة عند تقديمها في صورة مجردة غير مشخصنة، وكانت في حاجة إلى أشخاص، ليكونوا رموزا وشخصيات محورية. كان آيك يرمز إلى الدولة وإلى الحكومة، وكان الجنرال ماكارثر، خلال حرب المحيط الهادئ، قد مثل الأمل في النصر. بالمثل، كان رواد فضاء مركبة «ميركوري» يرمزون إلى الأمل في النجاح في مواجهة هذه التحديات الأخيرة الآتية من الخارج. كان من المنتظر أن يصبح رواد الفضاء مصدر إلهام لفيض هائل من مشاعر الكبرياء والإعجاب، وكان من المقرر أن يلعبوا أيضا أدوارا سياسية، حتى إذا فعلوا ما فعلوه من قبيل التفاخر ليس إلا. كل ما كان على أي منهم أن يفعله هو أن ينطلق إلى الفضاء، ثم يعود سالما.
لكن، بينما كان هؤلاء الرواد يؤدون أدوارهم كرموز لاستكشاف الفضاء، كان كوروليف يقدم مجددا الحقيقة الملموسة؛ إذ كان يعد العدة في تلك الأثناء لتنفيذ أكثر البعثات إلحاحا على الإطلاق، وهي البعثة التي كانت ستمثل الخطوة التالية في برنامجه لاستكشاف القمر؛ إذ كان كوروليف يسعى إلى التقاط صور فوتوغرافية للجانب البعيد غير المرئي من القمر.
هذه البعثة كانت تتطلب مركبة فضائية ذات قدرات متطورة على نحو غير اعتيادي؛ إذ كان على هذه المركبة أن تتبع مسارا شديد الدقة، وهو ما كان من المتوقع أن تخفق فيه المركبة «لونا 1» بعد فشلها في إصابة الهدف. كان على المركبة أن توجه نفسها بينما هي خلف القمر، وتحدد موضع القمر من خلال مجسات، ثم توجه الكاميرا التي تحملها في الاتجاه الصحيح. وكان يتعين عليها بعد ذلك تشغيل مختبر تحميض صور آلي يحمض الفيلم من خلال غمره في مواد كيميائية، وهو تطور ينطوي على قيمة واضحة في مجال الاستطلاع العسكري، بل إنه تطور غير متوافر في أقمار «ديسكفرر» المتطورة. واستجابة لأمر صادر عبر إشارة لاسلكية من محطة أرضية، تدير المركبة كاميرا تليفزيونية، وتجري عملية مسح ضوئي للصور المحمضة، ثم ترسلها.
لتطوير نظام التوجيه، استعان كوروليف بزميل قديم آخر، هو بوريس روشنباخ، الذي عكف على دراسة موضوعات فنية مشابهة لفترة من الوقت. بدأ روشنباخ باقتراض ألف روبل وأرسل أحد مهندسيه إلى متجر آلات إلكترونية محلي، لشراء كميات كبيرة من المكونات الإلكترونية المستعملة، ثم سرعان ما كان فريق عمله يبني نماذج أولية من مجسات بصرية، وطائرات نفاثة تتضمن أجهزة تحكم في الوضع، تعمل باستخدام النيتروجين المضغوط، وتتضمن بوصلات توجيه، ونظم تحكم إلكترونية. كانت هذه المركبة الفضائية هي أول مركبة تستخدم الخلايا الشمسية للحصول على طاقة كهربية. خلال عمليات الاختبار الأرضية، كانت ثمة رافعة ترفع المركبة من خلال حبل بينما كانت الأضواء الباهرة تتراقص على جسم المركبة، التي كانت تتلألأ مثل كرة لامعة في مرقص.
ثم واصل كوروليف جهوده نحو القمر ضاربا عصفورين بحجر واحد. في سبتمبر 1959، زار خروتشوف الولايات المتحدة في لقاء قمة مع آيزنهاور، وكان متحمسا لتحقيق نصر دعائي آخر. التزم كوروليف بتعهده بإجراء عملية إطلاق ناجحة ثانية إلى القمر، من خلال القمر «لونا 2»؛ وبالإضافة إلى ذلك، رتب كوروليف الإدلاء بمجموعة من التصريحات المهمة، لا من موسكو، بل من التليسكوب اللاسلكي الضخم في جودرل بانك في بريطانيا، وهو أكبر جهاز من نوعه في العالم. كان مدير مركز جودرل، السير برنارد لوفل، يتمتع بسمعة لا نظير لها؛ وهو ما أضفى مزيدا من البريق على هذا الإنجاز الأخير.
صفحه نامشخص