وليس أكثر من الشواهد التي تشهدنا على قوة الدين في نفوس من آمن به. إلا أننا لا نعلم بينها شاهدا أصدق في الدلالة على تلك القوة من أن يدين المرء نفسه بالدين أمام أعدائه، كما يدينها به أمام إخوانه في اعتقاده. ومن شواهد ذلك في إسلام الصديق أنه كره المثلة بأعدى الأعداء في ميدان القتال، فلما بعث إليه عمرو بن العاص برأس بنان بطريق الشام أنكر فعله أشد إنكار، ولم يخفف من إنكاره قول عقبة بن عامر له: إنهم يصنعون ذلك بنا، بل قال: أيستنون بفارس والروم؟ لا يحمل إلي رأس. إنما يكفي الكتاب والخبر.
فهو مسلم مع من يحب ومع من يكره ولو في قتال. وهذا بلاغ الدين القويم في نفس إنسان. •••
وهكذا كان مسلكه مع إخوانه وأعدائه، وفي لينه وشدته، وفي مفترق كل طريقين: إحداهما إلى الشدة وأخراهما إلى اللين، فقال النبي عليه السلام يصفه ويصف عمر: «... إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ... وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . ومثلك مثل موسى قال:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .»
ولم يكن عمل من أعماله في قضاء حقوق دينه وأداء فرائضه إلا يدل على هذه الخليقة التي اتصف بها في جملة حياته الإسلامية، وهي المبادرة في كل ما فيه قدوة بالنبي عليه السلام، والأخذ بالحيطة في كل ما يحتمل التعجيل والتأجيل.
سأله النبي: متى توتر؟ قال: من أول الليل.
صفحه نامشخص