أو هذه أعم الموانع التي تحول بين معظم الأسماع والإصغاء إلى ذلك الدعاء.
ومن الحقائق الملحوظة - كما أسلفنا - أن أبا بكر كان براء منها جميعا، أو كان كأبرأ الناس منها في عهد الدعوة المحمدية.
فلم يكن متغطرسا، بل كان مشهورا بالدعة والتواضع، مؤلفا لقومه كما قال واصفوه «محبا سهلا ...» وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته.
ولم يكن مهددا في سيادة مضروبة على أعناق الناس، فكان من ذوي الشرف في قريش، ولكنه لم يكن من قبائلها الساطية التي تستطيل بالبغي والطغيان، كان من «تيم» وهي بيت قرشي معدود، ولكنه لم يمنع أبا سفيان أن يقول كما قال لعلي بن أبي طالب يستثيره حين بويع أبو بكر بالخلافة: «ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟» ولم تكن «تيم» أذل قبيلة في قريش كما قال أبو سفيان، ولكنها على أية حال لم تكن بمقام السطوة والسيادة التي تطمس الضمائر والألباب.
ولم تكن لأبي بكر مصلحة في دوام الجاهلية؛ لأن عمله فيها كان ضمان المغارم والديات، وربما كان هذا العمل أدنى إلى الخسارة منه إلى المنفعة والغنيمة، فلا راحة ولا أسف عليه. أما التجارة فلا خوف عليها من الدعوة الجديدة، وصاحبها الداعي إليها تاجر يبيحها ويزاولها ويحض عليها.
ولم يكن مغلق الذهن ولا وصفه أحد بهذه الصفة من محبيه أو شانئيه، بل كان معروف الذكاء يلمح اللحن البعيد فيدركه ويسبق الحاضرين إلى فهمه والفطنة لموضع الإشارة فيه، كما حدث غير مرة والنبي عليه السلام يتحدث أو يعظ الناس.
ولم يكن مغامسا للشهوات، بل كان يكره ما شاع منها بين الجاهلين من ذوي الأقدار والأخطار، فلم يشرب الخمر ولم يركب الدنس ولم يشتهر قط بوصمة يعيبه بها من أسرعوا إلى معاتبته يوم هجر عقيدة الجاهلية وجنح إلى عقيدة الإسلام.
ولم تكن عبادة الأوثان عقيدة مكينة السلطان في عهد الدعوة المحمدية، بل كان أناس يهملونها وأناس يبحثون عن غيرها، وأناس يؤثرون عليها المسيحية واليهودية، فلا يصابون بمكروه في أكثر ما سمعنا من أخبار أولئك المتمسحين أو المتهودين.
وعلى هذا لم يكن أبو بكر متعصبا للجاهلية وعباداتها، بل لعله كان مزدريا لها مستخفا بالأصنام وبأحلام عابديها، وإذا صح ما جاء في «أنباء نجباء الأبناء» فهو لم يسجد لصنم قط: وقال: «لما ناهزت الحلم أخذ أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني! فلم يجبني. فقلت: إني عار فاكسني! فلم يجبني. فألقيت عليه صخرا فخر لوجهه.»
ولم يكن الصديق بالجبان، ولا بالشجاع الذي نصيبه من الشجاعة قليل، بل كانت شجاعته تفوق شجاعة الأبطال المعدودين في الجاهلية والإسلام. فثبت مع النبي في كل وقعة حين ولى من ولى وأبطأ من أبطأ، وغامر بحياته في حروب الردة وله مندوحة عن خوضها، ولم يذكر في أخباره قط خبر نكول أو خوف على حياة ومال.
صفحه نامشخص