فحق أبي بكر في قيامه مقام النبي ظاهر، ما فيه خلاف، ولا موجب لتخطيه إلى غيره على وجه من الوجوه.
ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتدادا لعهد النبي حتى يحين وقت التوسيع والتصرف، وأحوج إلى ألفة غير مخشية ولا منفوسة تعوضهم من طاعتهم للنبي بتعاونهم بينهم على النصيحة والمودة. وكل أولئك ميسور لأبي بكر قبل تيسره لغيره من جلة الصحابة الأقربين. فهو في حرص شديد على الاقتداء بالنبي، حرفا حرفا، وخطوة خطوة، لن يكون عهده إلا امتدادا للعهد النبوي حتى تتغير الأحوال فتأذن بالتغيير، وهو في ألفته واجتماع القلوب إليه خير من يخلف الطاعة بالمودة ويعالج الفرقة والانقسام بالرفق والتؤدة، فإن جد ما يدعو إلى التصرف أو يدعو إلى الشدة؛ فهناك الأعوان المخلصون له وللدين، وهناك المشيرون الذين يقلبون الرأي على جميع الوجوه: فضله مع قوتهم وقوته مع فضلهم، نعم العون ونعم الكفيل باجتماع أسباب الحول والحيلة، كما ألمع إلى ذلك عمر بن الخطاب.
ثم حانت الساعة التي تهيأت لها مشيئة القدر وتهيأت لها مشيئة الناس على ذلك النحو المستقيم.
فتم في يوم واحد كل ما ينبغي أن يتم في يوم.
ولاح للوهلة الأولى أن الخطر عظيم، وأنه موشك أن يعصف بكل شيء، وأن يخرج على كل سواء.
إذ اجتمع الأنصار يتحدثون بحقهم في الخلافة دون المهاجرين، وهمت الفتنة أن تنطلق بغير عنان في طريق لا تعرف عقباه، ولكنها فتنة مكبوحة قدر لها ألا تقوى على الانطلاق من باب السقيفة التي نجمت فيها.
فكان سعد بن عبادة زعيم القوم مريضا لا تؤاتيه في ذلك اليوم حركة النفس التي لا غنى عنها في ذلك المقام؛ لأنها تعدي بالهيبة والثقة من يستمعون إليه. فحملوه من بيته إلى السقيفة وهو لا يملك زمام عزمه ولا يقدر على الكلام، فجعل يخاطبهم بلسان القريبين منه، وجعلوا يصغون إليه إصغاءهم إلى مريض يشعرون بضعفه، لا إلى زعيم يشعرون بقوته وبأسه.
وكان القوم فريقين متنافسين منذ زمن قديم، وهم الخزرج والأوس وبينهما ملاحاة دائمة تهون معها كل ملاحاة بين الأنصار والمهاجرين.
وكانت يقظة عمر وأصحابه أسرع من فتنة القوم. فبلغوا السقيفة في إبانها وعالجوا الأمر حق علاجه، وقال كل منهم كلمة كانت أنفذ من سهم وأقهر من جيش. قال أبو بكر: «إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج، وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس، ولا تدين العرب لغير هذا الحي من قريش ... نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»
وقال عمر: «إن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم.»
صفحه نامشخص