قال لي أمي: قومي إليه.
قلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي ... وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره ... فأقسم ألا ينفق عليه شيئا أبدا. فأنزل الله عز وجل:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... إلى قوله:
ألا تحبون أن يغفر الله لكم (النور: 22).
فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه. •••
تلك هي القصة التي عرفت بقصة الإفك كما روتها لنا السيدة عائشة - رضي الله عنها. وهي مسبار صادق يسبر لنا أغوار المروءة والرفق في معاملة النبي لزوجاته حيث لا رفق ولا مروءة عند الأكثرين. فليس النبي هنا في حالة من حالات الرضا التي تسلس الطباع ولا تستغرب معها المودة وطول الأناة، ولكنه في حالة من تلك الحالات التي تثير الحمية وتثير الحب وتثير النقمة وتثير في النفس البشرية كل ساكنة تدعو إلى طيب المعاملة، فلم يكن في هذه الحالة إلا كرما خالصا بما سلك في أمر نفسه وفي أمر أهله وفي أمر دينه، ولم يدع لحالم من حالمي الحضارة الحديثة مرتقى يتطلع إليه في جميع هذه الغايات.
سمع النبي حديثا يلاك بين المنافقين، ويسري إلى المسلمين، بل إلى خاصة ذويه الأقربين؛ حديثا يسمعه رجل كعلي بن أبي طالب في بره وكرم نحيزته؛ فلا يرى بعده حرجا من الطلاق والنساء كثيرات.
سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة، ولم يرفضه بغير بينة، وكان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها إلى حين. فعادها وبه من الرفق والإنصاف ما يأبى عليه أن يفاتحها في مرضها بما يخامر نفسه الكريمة، وبه من الموجدة والترقب ما أبى عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به والنفس صافية كل الصفاء، وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفى، وأن تأتيه البينة؛ فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة، ولا يعجله لغط الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما توجبه الحمية وما توجبه المروءة في آن.
وسأل من ينبغي أن يسأل: عليا وأسامة وهما بمقام ولديه، وبريرة الجارية التي تعرف عائشة وتخلص لسيدها كما تخلص لسيدتها، وضرة لعائشة تنافسها وتكاد أن تضارعها في حظوتها لديه: زينب بنت جحش التي كانت أسرع من يقول لو علمت شيئا يقال، فاستعاذت بالله وقالت: «أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.»
واتصل الحديث بعائشة فاستأذنته في زيارة أهلها، وآن له أن يفاتحها وقد وصل النبأ إلى سمعها ولم يئن له قبل ذلك وهو كاظم ما في فؤاده قادر على كتمانه مخافة أن يؤذيها بغير حق وهي تشكو سقامها.
صفحه نامشخص