البليغ
«اللهم هل بلغت !»
هذه هي اللازمة التي رددها النبي في أطول خطبه الأخيرة، وهي خطبة الوداع.
وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها؛ لأنها لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات. فما كانت حياة النبي كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله عليه السلام وهو يجود بنفسه: «جلال ربي الرفيع فقد بلغت!»
ولصدق هذه الدلالة ترى أن السمة الغالبة على أسلوب النبي في كلامه المحفوظ بين أيدينا هي سمة الإبلاغ قبل كل سمة أخرى ... بل هي السمة الجامعة التي لا سمة غيرها؛ لأنها أصل شامل لما تفرق من سمات هي منها بمثابة الفروع.
وكلام النبي المحفوظ بين أيدينا إما معاهدات ورسائل كتبت في حينها، وإما خطب وأدعية ووصايا وأجوبة عن أسئلة كتبت بعد حينها وروعيت الدقة في المضاهاة بين رواياتها جهد المستطاع.
والإبلاغ هو السمة المشتركة في أفانين هذا الكلام جميعا، حتى ما جرى منه مجرى القصص أو مجرى الأوامر إلى المرءوسين أو مجرى الدعاء الذي يلقنه المسلم ليدعو الله على مثاله.
انظر مثلا إلى قصة أصحاب الغار الثلاثة وتوسلهم بصالح الأعمال وهي كما جاء في مختار مسلم: ... بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله - تعالى - بها، لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم. فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني. وإنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء.
ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء ...
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها.
صفحه نامشخص