قالوا: نفعل، فما أمرك؟
فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر ... فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ولسنا مع ذلك بمقاتلي محمد حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ...
وقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق. ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم ... ... وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ... ثم رحلت قريش وغطفان إلى بلادها، وانصرف رسول الله عن الخندق راجعا إلى المدينة.» •••
هذه دعوة نعيم بن مسعود.
وما نجحت دعوة قط برجل واحد نجاح هذا الرجل، ولا انتهزت فرصة العناصر الطبيعية والعناصر التي تتألف منها جماعة الأعداء كما انتهزت هذه الفرصة ... فكل كلمة قيلت لطائفة من طوائفهم فهي الكلمة التي ينبغي أن تقال في الوقت الذي ينبغي أن تفعل فيه فعلها، وهذه هي دعوة الإضعاف والتمزيق كأمضى ما تكون.
قائد بغير نظير
عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك أو إلى أشكالها وأحجامها، لأننا إذا نظرنا إلى الظواهر فلا معنى إذن للمقارنة على الإطلاق، إذ من المقطوع به أن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف، وأن حربا تدار بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفم والإشارة، وأن نقل الجنود بالطائرات والدبابات أبرع من نقلهم على ظهور الخيل والإبل، وأن المدفع أمضى من السيف، والرصاصة أمضى من السهم، فلا معنى إذن لمقارنة بالظواهر تنتهي إلى نتيجة واحدة ... هي استضخام الحرب الحديثة والنظر إلى القيادة الغابرة كأنها شيء صغير إلى جانب القيادة التي توجه هذه الضخامة.
لكننا إذا نظرنا إلى فكرة القائد، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد يدل على براعة في القيادة لا نراها في توجيه مليون، بينهم الراجل والراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة.
صفحه نامشخص