فمن دواعي الإعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات وإشاعة الذعر وتضليل المدافعين، وأنها شيء جديد في شكله وإن لم يكن جديدا في غايته ومرماه ... ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية. فهي تستلزم أن يكون الرائد غيورا على عمله، متحمسا لإنجازه، رقيبا على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه، فليس أيسر له إذا هو انفرد وأعوزته الرغبة في إنجاز عمله من أن يستأسر في أول مكان يصل إليه من بلاد الأعداء؛ طلبا للسلامة، ولا عقاب عليه إلى نهاية القتال، ثم يتعلل بما شاء من المعاذير إن وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه، وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى بين معسكرين أو عدة معسكرات.
فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين، ولا متشككين فيما هو موكول إليهم، وهي لهذا أحرى أن تحسب من وحي إخوان الطريق وإلهام العقائد، لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود، فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنين ينفخون في نفوس الناشئة جذوة البغضاء ويلهبونهم بحماسة العقيدة ويخلقون فيهم اللدد الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ؛ لحبطت الخطة كل الحبوط، وانقلبت على النازيين شر انقلاب ...
وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في اشتراط الرغبة والطواعية، واجتناب القسر والإكراه ...
فهذه «أولا» بعثة منفردة لا سبيل إلى الإكراه الفعال بين رجالها إذا أريد.
وهي «ثانيا» بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور. وألزم ما يلزم العامل فيها إيمانه وصدق نيته وحسن مودته لمن أرسلوه، فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.
أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع، فقد كان النبي عليه السلام عليما بمزاياه، معنيا به غاية العناية، يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون، في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية في الوقت الضروري، ويحول من ثم دون الانتصار عليه ...
ونحن نكتب هذه الفصول والحرب الروسية تذكرنا كيف أصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الغلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون في روسيا أمس وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم.
فمن أسباب هزيمة نابليون إهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية؛ لاعتقاده خطأ أن القيصر سيطلب صلحه بعد أسابيع.
ومن أسباب تلك الهزيمة أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام، ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها ديارا يسأله عن مكان الجيش المتراجع، أو يلتقط من خلال أجوبته ما يعينه على الاستطلاع الذي كان شديد التعويل عليه.
أما هتلر فقد أتي من قبل هذين النقصين كما أتى من قبلهما من هو أعظم منه وأولى بالتحرز والأناة.
صفحه نامشخص