فلا فتوح الشرق والغرب، ولا حركات أوروبا في العصور الوسطى، ولا الحروب الصليبية، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب، ولا كشف القارة الأمريكية، ولا مساجلة الصراع بين الأوروبيين والآسيويين والأفريقيين، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جميعه كانت واقعة في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة وإحدى وسبعين سنة من مولد المسيح.
كان التاريخ شيئا فأصبح شيئا آخر، توسط بينهما وليد مستهل في مهده بتلك الصيحات التي سمعت في المهود عداد من هبط من الأرحام إلى هذه الغبراء ... ما أضعفها يومئذ صيحات في الهواء! ما أقواها بعد ذلك أثرا في دوافع التاريخ! ما أضخم المعجزة! وما أولانا أن نؤمن بها كلما مضت على ذلك المولد أجيال وأجيال، وما أغنانا أن نبحث عنها قبل ذلك بسنين حيثما بحث عنها المنجمون والعرافون!
على أننا نستعظم الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان بمقدار ما فيها من فتوح الروح، لا بمقدار ما فيها من فتوح البلدان.
وجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال، فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدل في التاريخ، ويبتعث دوافع الشعوب.
أما غير الجائز فهو أن تنفتح للإنسان آفاق جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان، وبغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار.
ولقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالما مغلقا تحيط به الظلمات، فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد أو بامتداد التخوم وراء التخوم، ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة، فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم، ودنا به مرتبة إلى الله.
يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير. فمن أنكرها فإنما ينكر تقدم الإنسان كثيرا أو قليلا في هذه الطريق.
عقد عالم أوروبي
1
مقارنة بين محمد وبوذا والمسيح فسأل: «أليس محمد نبيا على وجه من الوجوه؟» ثم أجاب قائلا: «إنه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء؛ فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة، وإنه لخليق في هذه الفضيلة أن يسامي أوفر الأنبياء شجاعة وبطولة بين بني إسرائيل، لأنه جازف بحياته في سبيل الحق، وصبر على الإيذاء يوما بعد يوم عدة سنين، وقابل النفي والحرمان والضغينة، وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة، فصابر على الجملة قصارى ما يصبر عليه إنسان دون الموت الذي نجا منه بالهجرة، ودأب مع هذا جميعه على بث رسالته غير قادر على إسكاته وعد ولا وعيد ولا إغراء ... وربما اهتدى إلى التوحيد أناس آخرون بين عباد الأوثان، إلا أن أحدا آخر غير محمد لم يقم في العالم مثلما أقام من إيمان بالوحدانية دائم مكين، وما أتيح له ذلك إلا لمضاء عزمه أن يحمل الآخرين على الإيمان، فإذا سأل سائل: ما الذي دفع بمحمد إلى إقناع غيره حيث رضي الموحدون بعبادة العزلة؟ ... فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق والقوة في إيمانه بصدق ما دعا إليه.»
صفحه نامشخص