وإنما تقاس بمبلغ الأمل فيهم، والأمل يطول في بداءة الطريق وقد يقصر في منتصف الطريق.
وإنما تقاس آلام المفقودين بأعمار الفاقدين، وأي مصاب أفدح من مصاب الستين وما بعدها في الأمل الوحيد الواصل بينها وبين الزمان ماضيه وآتيه؟
ما تخيلت محمدا في موقف أدنى إلى القلوب الإنسانية من موقفه على قبر الوليد الصغير ذارف العينين مكظوم الوجد ضارعا إلى الله.
نفس قد نفثت الرجاء في نفوس الألوف بعد الألوف، وهي في ذلك الموقف قد انقطع لها رجاء عزيز، رجاء وا أسفاه لا يحييه كل ما ينفثه المصلح في الدنيا من رجاء.
وكأني بمحمد كان يومئذ أقرب إلى قلوب الخالفين من بعده مما كان مع الجالسين حوله، ومع أقرب الناس إليه.
كان أقرب الناس إليه زوجاته أمهات المسلمين وكن يحببنه غاية ما يحب النساء الأزواج، ولكن حبهن إياه لم يكن في هذا الموقف من حب المقربات العاطفات، لأنه حب أثار غيرتهن من أم الوليد المأمول، فاحتجب من عطفهن بمقدار تلك الغيرة وبمقدار ذلك الحب، ولا لوم عليهن فيما طبع عليه الإنسان وفيما لا يقصدنه ولا يقدرن عليه.
وكان أقرب الناس إليه أصحابه الخاشعون بين يديه، وكان إكبارهم لسيد الأنبياء ينسيهم أنه من الآباء، بل أنه أب أرحم من سائر الآباء ...
ظنوا أن النبي لا يحزن، كما ظن قوم أن الشجاع لا يخاف ولا يحب الحياة، وأن الكريم لا يعرف قيمة المال.
ولكن القلب الذي لا يعرف قيمة المال لا فضل له في الكرم، والقلب الذي لا يخاف لا فضل له في الشجاعة، والقلب الذي لا يحزن لا فضل له في الصبر. إنما الفضل في الحزن والغلبة عليه، وفي الخوف والسمو عليه، وفي معرفة المال والإيثار عليه.
وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن وبكى، وتلك هي الصلة بينه وبين قلب الإنسان، وبينه وبين الناس، وأي نبي تنقطع بينه وبين القلب الإنساني صلة كهذه الصلة التي تجمع أشتات القلوب؟
صفحه نامشخص