وعندنا أن العرب قد كسبوا الطريقتين معا بنشأتهم في البادية واقترابهم من دول الحضارة، ونعني بهما طريقة العصابات وطريقة الجيوش في إدارة الحروب.
فهم قد برعوا في حرب العصابات بالمرانة الطويلة، ثم اقتبسوا ما لزمهم أن يقتبسوه من فنون الحرب عند الدول الكبرى على أيامهم، فلم يخسروا بذلك إحدى الطريقتين بل جمعوا بينهما واستفادوا بما تفيده كل منهما في موضعها، فأضافوا سرعة العمل في طريقة العصابات على إحكام التنظيم في طريقة الجيوش ... وكانوا يقاتلون بفنين متساندين، يأخذون منهما ما يأخذون ويدعون منهما ما يدعون، حيث كان الفرس أو الروم يتقيدون بفن واحد على التراث المحفوظ الذي لا يحسنون التجديد فيه ...
ومن المحقق أن قبائل العرب التي أقامت في الحواضر كانت على الزمن تتلقى النصيب الأوفى من كلتا الطريقتين، إما بالقدوة والتلقين أو بالتعليم المقصود، ولا سيما قبائل قريش التي كانت تقيم في عاصمة العواصم العربية من الوجهة الأدبية والثقافية، وكانت تجمع كل ما تفرق بين أبناء الجزيرة من المزايا والمعارف والصفات؛ لأنها أخذت نفسها بآداب الرئاسة المدنية والبدوية التي يدين بها جميع هؤلاء.
فالتاريخ الصادق يتقاضانا أن نعرف هذه الحقيقة؛ لنعرف موقع العدل والإنصاف من حكم الزمن بين الأمم الكبيرة التي تنازعت السيادة بعد ظهور النهضة العربية. •••
فالنهضة العربية لم يكتب لها النصر؛ لأن الفرس والروم كانوا يستحقون الهزيمة وكفى، بل هي قد انتصرت؛ لأنها كانت تستحق النصر بأسبابه التي لا مصادفة فيها ولا محاباة، ولا محل لفلتة نادرة لا تقبل التكرار ...
وإنما كانت أسباب النصر عند العرب ناقصة، فتمت في أوانها فغلبوا بوسائل الغلبة جميعها.
كانوا متفرقين بغير باعث إلى الوحدة والنهوض، فجاءتهم الدعوة الإسلامية تجمع شتاتهم وتبعث كرامتهم وتنطلق بهم في سبيلهم. فتم لهم ما نقص وتهيأت لهم ذرائع النصر في شرعة الأرض والسماء، وعلم النبي - عليه السلام - بيوم «ذي قار» وهو يدعو العرب إلى دين التوحيد، فرأى فيه بوادر نصر العرب على العجم، وأيقن أنه يوم تتلوه أيام، وأنه مسمع بدعوته الأمم جميعا عما قريب.
الفصل الثاني
قريش ومخزوم
كانت قريش موئل الثقافة من أنحاء الجزيرة كلها بين حاضرة وبادية، ومن قديم عصورها إلى حديثها.
صفحه نامشخص