3
إلى المدينة بأخبار النصر وغنائم القتال، فلا يفزع الناس من حديث بريد حتى يتبعه ما وراءه بنصر جديد ... وسبقت ضربات خالد كل آمال الآملين في سرعة الظفر بدولة الأكاسرة، فقال أبو بكر وهو يبلغ الناس أنباء الظفر ليزفوا بشراها إلى الجزيرة العربية: «يا معشر قريش ... عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله
4 ... أعقمت النساء أن يلدن مثل خالد؟»
ثم سلمت الحيرة - بلد النعمان وموئل نابغة بني ذبيان - فكان لتسليمها صدى بين أبناء العروبة لا يعدله صدى الفتح في بلد من البلدان؛ لأنها كانت في عالم الشعر والبلاغة حديثا على كل لسان.
إلا أن الخليفة الذي عرفناه رجلا حصيف الجرأة، جريء الحصافة، لم ينس اليقين مع الحيطة ولم ينس الحيطة مع اليقين ... وأدركه الحذر في هذه المرحلة من مراحل الحرب الفارسية، فجنح إلى الأناة والتريث وأخذ بعنان خالد فلم يأذن له أن ينطلق وراء الحيرة حتى يوافيه زميله عياض بن غنم ويأمن كلاهما من ورائهما غدرات الطريق، وحجة الخليفة في ذلك أظهر من أن تخفى. فمن تجاوز الحيرة أحاط به الفرس من اليمين والروم في الشام من اليسار، ثم إن السواد نفسه إقليم حديث العهد بالإسلام لم ترسخ فيه قدمه ولا يؤمن تركه والتطوح بعده إلى حمى الدولة الفارسية في عواصمها من وراء النهرين، وقد نمى إليه ولا شك أن فلول العرب المهزومين هجروا حوض العراق وأوغلوا في الصحراء إلى دومة الجندل يتجمعون ويتربصون، وفي الشام أراجيف عن تعبئة القيصر لجيوشه لا تغمض عنها العيون قبل أن تستقر الطرق وتتمهد مواطئ الفتوح، فإن لم يخرج عياض بن غنم من معاقل دومة الجندل بين العراق والشام مالكا زمامها وزمام ما حولها، فكل خطر هناك محتمل، وكل عجلة قد تجر إلى وبال.
ولكن الفرس الكريم الذي يحبس في الحلبة يعاني من أمان الحبس ثقلة لا يعانيها من تعجل العواقب ومكافحة الأخطار. فحز في طبع خالد جذب العنان وأقام في انتظار زميله قرابة عام وهو يسميه سنة نساء، ولو كثب لرجل غيره أن يظفر في هذه السنة المستريحة بمثل ما ظفر به لارتضاه لنفسه سجل عمر كامل، لأنه خاض ثماني وقائع فيما يليه من البلاد لم يحسبها وقائع تحصى، وله في كل وقعة منها نصر يعتز به قائد فخور.
وقد عرضت لخالد في هذه السنة وما قبلها عوارض شتى تدخل في الحساب أو تأتي من هنا وثم على غير حسبان. فتصرف فيها جميعا تصرف الرجل الذي خلق للتقلب في أجواء الحرب كما خلق السمك للتقلب في الماء، فلا تفجؤه حالة من حالاتها بما يربكه أو يعيبه.
البدوي لا عهد له بسفينة غير سفينة الصحراء - وهي الجمل - ولكن خالدا غنم السفن الفارسية بعد وقعة «أليس» فأركب جيشه فيها ليكفيه ويكفي مطاياه مشقة السير، فلم تنقله السفن إلا قليلا حتى جف الماء ولصقت بالقاع؛ لأن الفرس تسامعوا بمسيره في النهر فأوصدوا قناطر الحيرة وحبسوا الماء عن مجراه، ولو بدوي غير هذا البدوي فوجئ بهذه الحيلة الحضرية وهذه اللعبة الهندسية لوقع في «حيص بيص» وترك السفن في قاعها ورجع إلى مطاياه ... ولكنه أبى إلا أن يبلغ بالسفن إلى حيث شاء، فانبعث في نفر من أصحابه كالبزاة إلى القناطر وأطلقوا ماءها ولبثوا هناك في حراستها وفي انتظار السفن التي ارتفعت براكبيها كأنهم يشهدون غريبة من غرائب السحرة تعبث بالسفينة بين بر يابس ونهر غزير ...
وحفروا له في الأنبار خندقا، ثم احتموا وراء الخندق بحصن ينظرون إليه من أعلاه، كأنهم يهزأون به ويستعجزونه أن يعبر الخندق وأن يفلح في علاج الحصن إذا وصل إليه، فلم يلبث أمام الخندق كثيرا ولا قليلا بل أمر لتوه بنحر الإبل العجاف وألقى بها في الخندق فسدته ودعا جيشه إلى العبور عليها، فأصبح من في الحصن سجناء في يديه، وتوسلوا إليه أن يرسلهم في سبيلهم مجردين من السلاح والمتاع، وهم يحمدون الله على النجاة من يوم كيوم «أليس»، فأجابهم إلى ما طلبوه.
وعلم أن عقة بن عقة يحشد له في عين التمر حشودا من تغلب وإياد وأصحاب المتنبئة سجاح، ويوهم الفرس أنه ند للعرب؛ لأنه أخبر بهم من غيرهم، فوثب على معقله بالصحراء وهو كدأبه على تعبئة كاملة، وبصر ب «عقة» حين دنا من الموقع فقال لصحبه: اكفونا ما معه فإني حامل عليه بنفسي ... ثم احتضنه وحمله أسيرا وهو لا يتوقع أن يؤخذ من أساليب القتال العربي بهذا الأسلوب العجيب في كل قتال. وقد كان خالد يعمد إليه كلما بدا له أن يوجز في الحركة ويضرب قلب أعدائه بضرب عميدهم المطاع فيهم، فيصيب ما أراد.
صفحه نامشخص