والوثنية، وكان القائلون منهم بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح أقرب إلى الإسلام منهم إلى المسيحية ...
وابتذل عرش الملك بالقتل والاغتصاب؛ فضعف الولاء له في نفوس العلية وقواد الجيوش، وقد استقر الأمر زمنا للقيصر هرقل الذي حضر عهد النبي - عليه السلام - ولكنه شقي بالفتن في أخريات عهده وركبته الوساوس في شيخوخته، ولا سيما بعد بنائه ببنت أخته، فاعتقد أنه مغضوب عليه مستحق لعقاب السماء.
ومن كان من الرعية ذا دين غير المسيحية فهو ساخط ناقم كاليهود والوثنيين؛ لأن رؤساء الكنيسة والدولة اتهموهم غير مرة بالتواطؤ على فتح البلاد مع المغيرين عليها من الفرس والبرابرة، فأثخنوا فيهم قتلا وتشريدا حتى قيل إنهم كانوا يفتكون في المذبحة الواحدة بعشرات الألوف من الرجال والنساء والأطفال.
وعاشت في ظل الدولة الرومانية قبائل غسان وجذاع وكلب وتنوخ وغيرها من قبائل العرب، فكانت تعينها وتستعين بها على منافساتها من قبائل المناذرة في الحيرة ... ولكن غلبة الفرس تارة وغلبة الروم تارة أخرى على تلك البقاع ضيع الثقة بالدولتين، وهيأ نفوس العرب لقبول دعوة جديدة ولا سيما الدعوة التي تأتيهم من أبناء جنسهم في الجزيرة العربية وبها اعتزازهم على العجم كافة من فرس وروم، واتفق في تلك الفترة انقطاع الهبات التي كان رؤساء العشائر يتلقونها من قياصرة الدولة وولاتها فبرموا بها وودوا لو انقلبوا عليها ساعة يأمنون كيدها ويوثقون الصلة بينهم وبين خصومها.
ويؤخذ من رسالة فجيتيوس
Végétius
في علم الحرب أن نظام الجيش الروماني في الغرب والشرق، كان قد تعاوره الخلل قبل ظهور الدعوة المحمدية بأكثر من قرنين، ففي هذه الرسالة يقول فجيتيوس الذي يعدونه إمام أساتذة الحرب بين الغربيين: إن «اللجيون» قد وهن واضمحل ويذكر من أسباب وهنه واضمحلاله أن مناصبه الكبرى أصبحت تمنح للمحاباة والصنيعة بعد أن كانت وقفا على الكفاية والخدمة الطويلة، وإن عامة جنوده يهربون منه ويؤثرون الخدمة في الفرق المتطوعة؛ لأنهم يستثقلون تمريناته وأسلحته ويستثقلون جزاءه ويضيقون ذراعا بوطأة نظامه.
وقد أتيحت للرعية في الشام والبلقاء فرصة حسنة للمقارنة بين حكم العرب وحكم الرومان، قبل الوقائع الفاصلة التي دارت فيها الدائرة على الجيوش الرومانية. فقد كان رجال الجيش الروماني يهبطون المدينة فينهبون بيوتها وغلاتها ويستبيحون أعراضها ويهتكون حرماتها ويسكرون ويعربدون فلا يأمنهم أحد مطموع في ماله أو غير مطموع منه في شيء على الإطلاق، وإنما هي العربدة والضراوة والاستخفاف، ثم جاءهم قوم لا يعتدون على عرض ولا يقربون الخمر ولا يعفون عمن يقربها منهم ولو كان من عليتهم، ويقيمون في المدينة ثم يرحلون عنها فيردون الجزية إلى أهلها؛ لأنهم إنما أخذوها لحمايتهم وحمايتها، فكانت المقابلة بين الحكمين مدعاة إلى التراخي في الدفاع عن الحكم القديم وتمني الغلبة للحكم الجديد، وقد تتجاوز ذلك إلى المساعدة الظاهرة كما حدث من بعض العرب المسيحيين والوثنيين على السواء. •••
بل ربما تجاوزت كل هذا إلى إزعاج ثقة القادة بأنفسهم عند المقابلة بينهم وبين قادة خصومهم ... فمما يروى في هذا المعنى وهو كثير أن أخا القيصر وقائده سأل رجلا من قضاعة عن شأن المسلمين بعد ما أقام بينهم أياما، فقال له: «هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحد، فقال القائد: لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.»
ولما بدأت المعارك بين العرب والدولتين كان العرب ربما أخطأوا فلم يضربوا ضربتهم في موضعها فيتسع لهم الوقت لإصلاح الخطأ والرجوع إلى الخليفة لطلب النجدة والمشورة؛ لأن أعداءهم مشغولون أبدا بنزاع أو فتنة أو ريبة. أما الروم والفرس فلم يكن لهم متسع لإصلاح خطأ يخطئونه وكثيرا ما كانوا يخطئون، فبدأت المعارك بين الفريقين وعند أحدهما كل مظاهر الأسباب التي تدعو إلى النصر، وعند الآخر كل حقائق الأسباب التي تدعو إليه.
صفحه نامشخص