63

ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، وعزم على غزو حصونها جميعا ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ والكبار، فاقترح عليه مجاعة أن يذهب إليهم؛ لينزلهم صلحا عن معاقلهم، ثم خدعه وأخلص لقومه؛ لأنه أمر النساء والكبار أن يلبسوا الحديد ويبرزوا من رءوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشرفات ممتلئة من رءوس الناس، فآثر المصالحة لما رأى بالمسلمين من الجهد «وقد كلوا من كثرة الحروب» واشترط أن يسلموا وأن يكون له نصف السبي والغنائم، ثم نزل من النصف إلى الربع حين أوهمه مجاعة أن القوم قد رفضوا ما قبل منه.

فلما اطمأن المعتصمون إلى الحصون من بني حنيفة فتحوا أبوابها فلم ير فيها إلا امرأة أو صبي أو شيخ فان أو رجل هزيل لا يرجى لقتال.

وقد يتوقع من خالد أن يغضب على مجاعة ويبطش به بطشة خالدية بعد هذه الخدعة التي اجترأ عليه بها علانية وهو في قبضة يديه.

لكننا في الحق لا نعجب إذا هو لم يغضب؛ لأن عمل مجاعة لا مراء عمل نبيل يكبره في النفوس النبيلة، ويبعث له فيها الإعجاب الذي يكفكف من شرة كل غضب سريع. فهو عمل ينضح بالمروءة والغيرة على العشيرة، وكلتاهما فضيلة يعرفها خالد، ويعرف للمتصف بها قدره فلا يذله ولا يجزيه شر الجزاء.

وقصارى ما بلغ من غضبه أنه نظر إليه نظرة شزراء وصرخ به: ويحك ... خدعتني، فلم يجبن مجاعة ولم يعتذر، وإنما قال: هم قومي.

وما نحسب إلا أن الإعجاب بمجاعة قد حبب إلى خالد أن يصهر إليه ويوثق الصلة بينه وبينه ... زعيم شجاع جميل الرأي حسن التدبير غيور على قومه، عليم كما وصفوه بمكيدة الحرب والسلم، فهو خير صهر في تلك القبيلة التي يفخر «سيف الله» بدخولها على يديه في الإسلام، ويطيب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت والنسب، وقد طاب له المقام بتلك البقاع المخصبة التي يزينها له النصر كما يزينها له طيب الهواء، فاختار له واديا من أوديتها الجميلة يسمى الوبر ليقيم فيه حتى يؤمر بوجهة أخرى، وخطب إلى مجاعة فتاة له موصوفة بجمالها، وهي خطبة لا ترفض ولكنها قد تقبل وتؤجل؛ لأن مجاعة قد علم من «ليلى» مذ كان سجينا في خيمتها كيف تلقى الخليفة وأصحابه خبر زواجها بخالد في ساحة القتال. فأشفق هذا الرجل المحنك البصير بالعواقب من عاقبة تسوءه وتسوء ابنته وتسوء خالدا في جريرته، فاستمهله ولم يعجل بتلبية طلبه، وقال له: «مهلا ... إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك» ... ولكنه لم يلبث أن علم إصرار خالد حتى أجابه ورأى أن عاقبة القبول أسلم من عاقبة الإباء.

وكان خالد قد تلقى من الخليفة أمرا باستئصال كل من يحمل السلاح من بني حنيفة، فعادت الرسل إلى الخليفة بخبر الصلح وخبر الزواج، فحسب أن الأمرين مقترنان واشتد به السخط على عمل خالد بما وقع في نفسه من حسبان، فكتب إليه أعنف خطاب وجهه إلى قائد من قواده أو وال من ولاته، وسماه «ابن أم خالد ...» وقال له في خطابه: إنك لفارغ، ونعى عليه أنه «ينكح النساء وبفناء بيته دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد.»

وقد كتب خالد إلى الخليفة يعتذر في أنفة وعزة: «أما بعد، فلعمري ما تزوجت النساء حتى تم لي السرور وقرت بي الدار، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو عمدت إليه من المدينة خاطبا لم أبل. دع أني استثرت خطبتي إليه من تحت قدمي، فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو دنيا أعتبتك، وأما حسن عزائي على قتلي المسلمين فوالله لو كان الحزن يبقي حيا أو يرد ميتا لأبقى حزني الحي ورد الميت، ولقد اقتحمت في طلب الشهادة حتى يئست من الحياة وأيقنت بالموت، وأما خدعة مجاعة إياي عن رأيي فإني لم أخطئ رأي يومي ولم يكن لي علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيرا، وأورثهم الأرض وجعل لهم عاقبة المتقين.»

وقال في رسالة أخرى: «إني لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به، وحتى عجف الكراع ونهك الخف، ونهك المسلمون بالقتل والجراح.»

وقد ظن خالد أن الخليفة لم يكن ساخطا عليه ذلك السخط لولا إصغاؤه «للأعيسر» كما كان يسمى عمر بن الخطاب، ويخيل إلينا أن سخط الخليفة لم يكن ليبلغ به هذا المبلغ لولا أن زواجه ببنت مجاعة سبقه ذلك الزواج الذي خبطت فيه الظنون بعد مقتل مالك بن نويرة.

صفحه نامشخص