فالتوفيق بين هذه الأقوال جميعا إنما يستقيم لنا بتأخير مولد عمر قليلا عن سنة أربعين، وتقديم مولد خالد قليلا عن سنة ثلاثين، فيرجح إذن أن يكون مولده في نحو سنة أربع وثلاثين قبل الهجرة، ولا مانع إذن أن يصارع عمر ويغلبه كما يغلب الفتى في الرابعة عشرة مثلا زميلا له في السادسة أو السابعة عشرة، إذا كان مولودا للدربة على الرياضة وألعاب الفروسية، وكان خالد ولا شك كذلك؛ لأنه ورث قيادة الأعنة من باكر صباه.
نعم يظهر أنه كانت عليه مخايل الفروسية منذ صباه الباكر؛ إذ رشحه أبوه لقيادة الخيل ولم يكن أكبر أبنائه، ورأيناه على قيادة الفرسان - فرسان قريش - في وقعة أحد التي أحاط فيها برماة المسلمين من ورائهم، فحلت الهزيمة بجيش المسلمين بعد انتصاره.
وقد أسلفنا أن بني مخزوم كان لهم في الجاهلية أمر القبة والأعنة، فالقبة هي خيمة عظيمة يضربونها ليجمعوا فيها عدة القتال، والأعنة هي الخيل وفرسانها، وولاية خالد هذه «الوظيفة» الموكولة إلى قبيلته بين بطون قريش جميعا هي آية استعداده للرئاسة والقيادة منذ صباه.
وفي أخبار خالد قصة واحدة تنفعنا في تصوير ملامحه وسماته لقلة أوصافه المحفوظة، على خلاف ما تعودناه من أحاديث العرب عن أبطالهم، وهي في الغالب مفيضة في وصف أولئك الأبطال.
تلك القصة هي ما أشرنا إليه من المشابهة بينه وبين عمر بن الخطاب، حتى كان أناس من ضعاف النظر يخلطون بينهما من قريب، ولا يميزونهما بالرؤية ولا بسماع الصوت الخفيض.
وخلاصتها أن علقمة بن علاثة لقي عمر بن الخطاب ليلا فقال له: مرحبا بك يا أبا سليمان ... ثم دنا منه فلم يميزه مع دنوه وسماع صوته برد السلام عليه، فقال: عزلك ابن الخطاب؟ فأجابه عمر: نعم. فمضى علقمة يقول: ما يشبع، لا أشبع الله بطنه.
وأصبح عمر، فدعا بخالد وعلقمة وسأل خالدا: «ماذا قال لك علقمة؟» فنفى أن يكون قد لقيه أو جرى بينهما كلام، وكرر عمر السؤال فأقسم خالد بالله ما رآه ولا سمع منه شيئا ... فقال علقمة كالموسع له من حرج: «حلا أبا سليمان» ... ولم يفطن لغلطه، حتى تبسم عمر وأخبرهما بالحديث.
ومن هنا تفهم أن خالدا كان طويلا بائن الطول، وأنه كان عظيم الجسم والهامة، مهيب الطلعة يميل إلى البياض.
وغني عن تواريخ المؤرخين - ولا جدال - أن خالدا قد تعلم في صباه كل ما يتعلمه الفتى المرشح للحرب والفروسية وشمائل الرئاسة، ومن الصغائر العارضة التي زعم أناس أنها أصل الجفاء بينه وبين قريبه عمر بن الخطاب أنه صارعه كما تقدم، فغلبه وكسر ساقه، وهي صغيرة تنبئ عن دراية باكرة بفنون الصراع والكفاح، ولكنها لو لم تذكر في مصادرها لأغنانا عنها علم القائد الكبير بفنون الفروسية على أنواعها، وسرعته في مأزق النزال إلى مصارعة أقرانه ومبارزيه واحتضانهم بعنف شديد حتى يعجزهم عن الحراك.
وغير بعيد أنه تعود عيشة الشظف وراض نفسه على الخشونة عمدا في البادية ليصبر على مضانك الحرب وشدائد الجوع والظمأ حيثما تفرد عن موارد الزاد. فقد جاء في بعض الأحاديث أن خالدا كان يأكل الضب ويشتهيه كما يأكله الأعراب ويشتهونه، وهو أغنى إنسان في مكة أن يسيغ هذه الأكلة الأعرابية، مع يساره وافتنان أهله في الأطعمة الحضرية.
صفحه نامشخص