فإذا قيل لك إن عمر قد غار، فلن يخطر لك أن تسأل: ممن كانت غيرته؟ وإنما يخطر لك أن تسأل في كل مرة: علام غار؟ ولأي شيء كان يغار؟
فهو يغار على حق، أو يغار على عرض، أو يغار على دين، أو يغار على صديق أو صاحب حرمة، ولا يغار من هذا أو ذاك لنعمة أصابها هذا أو ذاك.
إنما كان يغار على شيء يحميه، ويعلم من نفسه القدرة على حمايته، فهي غيرة من يريد الحماية لغيره، ولا يريد انتزاع الخير لنفسه أو غلبة إنسان على حظه.
رجل قوي، جياش الطبع، شديد الشكيمة، مؤمن بالحق وحرماته، قادر على تقويم من يحيد عنها ويجترئ عليها. فإن لم يكن هذا غيورا فمن يكون الغيور؟
وقل في ذكائه وفطنته وألمعية ذهنه ما تقول فيما اشتهر به من صفات العدل والرحمة والغيرة، وإن كانت هذه الصفة أحوج منهن إلى الشرح والتحليل.
فبعض المستشرقين الذين أثنوا عليه قد عرضوا لأمر تفكيره، فوصفوه بأنه محدود التفكير، أو أنه يأخذ الأمور بمقياس واحد.
ونحن لا نقول إن عمر - رضي الله عنه - خلق بذهن عالم بحاثة منقطع للكشف والتنقيب، ولا أنه خلق بذهن فيلسوف مطبوع على التجريد والذهاب بالفكر في مناحي الظنون والفروض، ولا أنه خلق بذهن منطيق يدور بين الأقيسة والاحتمالات مدار الترجيح والتخمين؛ فالواقع أنه لم يكن كذلك ولا يعيبه ألا يكونه، وأنه كان معنيا بالعمل قبل عنايته بالنظر أو الفرض والتقدير، ولكن الفرق بعيد بين هذا وبين الفكر المحدود، والنظر الذي يقيس الأمور بقياس واحد.
فعمر كانت له فطنة الرجل العليم بنقائض الأخلاق، وخبايا النفوس، ولم يحكم عليها قط كأنه ينظر إليها من جانب واحد، أو يطبعها في تفكيره بطابع واحد، بل علم الدنيا وعلم كيف يتقلب الإنسان، وراح في علمه هذا يراقب الناس مراقبة الجذور، ويقيم عليهم الأرصاد إقامة الرجل الذي لا يفوته أن ينتظر منهم ما ينتظر من خير وشر، وقوة وضعف، وصلاح وفساد.
وكفى من كلماته الدالة عليه أن نذكر أنه كان يحب أن يعرف الشر كما يعرف الخير؛ لأن «الذي لا يعرف الشر أحرى أنه يقع فيه»، وأنه كان يحب أن يعرف الأعذار كما يعرف الذنوب، حيث يقول: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وأنه هو القائل: «احترسوا من الناس بسوء الظن»، وهو القائل مع ذاك: «أظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر» ... يوفق في هذين القولين بين سهر الحاكم الذي لا ينبغي أن تخفى عليه خافية، وبين عدل القاضي الذي لا ينبغي أن يحكم بغير بينة ظاهرة.
بل لو كان عمر بن الخطاب محدود التفكير، ينظر إلى الأمور من جانب واحد، لما كثرت مشاورته للكبار والصغار والرجال والنساء، مشاورة من يعلم أن جوانب الآراء تتعدد، وأن للأمور وجوها لا تنحصر في الوجه الذي يراه، وكثيرا ما قال: «أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه.» وليس استطلاع الآراء ولا الخوف من الإعجاب بالرأي شيمة رجل محصور التفكير، ضيق المنافذ إلى الحقيقة.
صفحه نامشخص