8
يعمل بكلتا يديه، وكان أصلع خفيف العارضين، وكان كما وصفه غلامه، وقد سأله بلال: كيف تجدون عمر؟ فقال: خير الناس، إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم.
وكان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأثر البكاء في صفحتي وجهه، حتى كان يشاهد فيهما خطان أسودان.
ومن فرط حسه وتوفز شعوره أنه كان يميز بين بعض المذوقات والمشمومات التي لا يسهل التمييز بينها؛ سقاه غلامه ذات يوم لبنا فأنكره، فسأله: ويحك! من أين هذا اللبن؟ قال الغلام: إن الناقة انفلت عليها ولدها، فشرب لبنها، فحلبت لك ناقة من مال الله.
وقد عرفنا أهل البادية، وعرفنا أنهم جميعا أصحاب إبل وألبان، ولكننا لم نجد منهم إلا قليلا يدعون أنهم يفرقون بين لبن الناقة ولبن غيرها هذه التفرقة السريعة، ولا سيما في المناخ الواحد والمرعى المتقارب.
وكانت له فراسة عجيبة نادرة يعتمد عليها، ويرى أن «من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»، وتروى له في أمر هذه الفراسة روايات قد يصدق منها القليل، وتتسرب المبالغة إلى كثير، ولكنها على كلتا الحالتين تنبئنا بحقيقة لا شك فيها، وهي أنه اشتهر بالفراسة وحب التفرس، والاستنباط بالنظرة العارضة، فمن ذلك أنه كان جالسا، فمر به رجل جميل، فقال ما معناه: أحسبه كان كاهنهم في الجاهلية. فكان كذلك!
ومنه أنه أبصر أعرابيا نازلا من جبل، فقال: هذا رجل مصاب بولده، قد نظم فيه شعرا لو شاء لأسمعكم، ثم سأل الأعرابي: من أين أقبلت؟ فقال: من أعلى الجبل، فسأله: وما صنعت فيه؟ قال: أودعته وديعة لي. قال: وما وديعتك؟ قال: بني لي، هلك فدفنته. قال: فأسمعنا مرثيتك فيه. فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما تفوهت بذلك، وإنما حدثت به نفسي. ثم أنشد أبياتا ختمها بقوله:
فالحمد لله لا شريك له
في حكمه كان ذا وفي قدره
قدر موتا على العباد فما
صفحه نامشخص