عبقریت اصلاح و آموزش: امام محمد عبده
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
ژانرها
أراد الأمير بتقريب الشيخ إليه أن يستعين به على تعويض السلطة التي انتزعها الإنجليز منه بسلطة في مجاله المأمون لا تمتد إليها يد الإنجليز، وأن يقيم الحجة عليهم في دعواهم التي يلهجون بها ويتذرعون بها لتسويغ رقابتهم على دواوين الحكومة وإطالة أمد الاحتلال، وهي دعوى الإصلاح، فإن الإدارة التي تنقل الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية من الفوضى إلى النظام لا تعجز عن إصلاح ديوان من دواوين الحكومة قديم عهد بالنظام «العصري»، مهما يعرض له من عوارض الاحتلال.
وأراد الشيخ بالتقرب إلى الأمير أن يسند ولي الأمر في محنته مع السلطة الأجنبية، وأن يستفيد من رغبته في العمل سندا للمصلحين وعونا له على رسالته المرجوة من قديم، وليس بين يديه - بعد عودته من منفاه - مجال أنفع من هذا المجال من طريق الإيمان الصادق والتعليم المفيد. •••
ولكن الخديو لم ينس حب السلطة الذي ساقه - في الحقيقة - إلى طريق الإصلاح في هذا المجال الواسع، ولم يلبث أن علم أن رجلا كالشيخ محمد عبده جدير أن يعينه في كل مهمة من مهام هذا العمل الكبير، إلا أن يكون عونا له على تسخير الأزهر ومحاكم الشرع ومرافق الأوقاف للسلطة التي تفعل ما تشاء؛ لأنها خلصت في هذا الجانب من قيود المحتلين.
واشتد طغيان هذه الآفة على نفس الأمير بعد اضطراره إلى مصانعة المحتلين؛ فإنه أراد له مجالا لا يلجأ فيه إلى مصانعة أحد من رعاياه المسخرين له من باب أولى، ولجت به هذه الآفة لجاجها المخيف حين زين له فقدان السلطة أن يتهافت على جمع المال من كل مورد مفتوح بين يديه، ووجد هذا المورد مفتوحا على مصراعيه في خزائن الأوقاف ووصايا التركات، وفي احتكار السيطرة على المحاكم الشرعية التي يتخرج قضاتها من بين يديه.
ولم تمض فترة التمهيد للإصلاح والتنظيم في مجال الدواوين الدينية حتى كان للخديو مسلك آخر مع الشيخ محمد عبده وأعوانه ومريديه، فهو يستبقيه للانتفاع بقدرته وشجاعته، بل للاحتماء بمكانته الدينية أحيانا في وجه السلطة الأجنبية، ولكنه يحاذر أن يسلمه زمام التصريف والتدبير في مركز من مراكز الأزهر المستقلة ... فتخطاه في التعيين لمشيخة الأزهر مرتين، وكان ترشيحه لمنصب الإفتاء في الواقع حيلة مستورة لإبعاده عن المشيخة، وهو أجدر بها وأقدر على الإصلاح فيها من كل من تولاها على عهد الخديو عباس، وهو أعرف برجحانه عليهم من سواه.
وسر آخر بعيد جدا من هذا المجال يرجع إليه هذا المسلك المتبدل من جانب الأمير، فإنه كان يطمح إلى الخلافة ويريد أن يستمد من سمعة الأزهر وعلمائه في العالم الإسلامي سندا دينيا يرجحه على أمراء المسلمين الذين ينفسونها على السلاطين العثمانيين، وكان يرجو من مصانعة المحتلين أحيانا أن يعاونوه بالسند السياسي، وأن يؤيدهم في المحيط الدولي بيت سفوا الإيطالي صديق الأسرة العلوية القديم، ومصلحته في ترشيح الخليفة المصري أن تدين له اليمن وشواطئ البحر الأحمر؛ لأنه صديق الخليفة المطاع، ولا يأبى المحتلون هذه المصلحة للدولة الإيطالية؛ لأنها دخلت معهم في المساومة على أملاك الدولة العثمانية، واتفقت معهم على نصيبها من المستعمرات: اليمن وأريتريا والصومال، فضلا عن مصلحة الدولة البريطانية بين مسلمي الهند وغيرهم في قيام الخلافة في بلد يهيمنون عليه، ولم يغفل عبد الحميد - باقعة آل عثمان - عن هذه المساعي الخفية، بل فطن لها واحتجز عنده جمال الدين الأفغاني لكيلا يعود إلى القاهرة ويؤيد هذه الحركة بنفوذه ونفوذ تلاميذه من المصريين والشرقيين، وحدث لما قام الخديو عباس بزيارة دار الخلافة للمرة الأولى أنه التقى هناك بجمال الدين، فاستدعى هذا إليه على الأثر وسأله: أتريد أن تجعلها عباسية؟ يريد أنه يتآمر مع الخديو على إسناد الخلافة إليه، فكان جواب السيد: إن الخلافة ليست خاتما في يدي أضعه في أصبع من أشاء. ولم يفقد عباس الأمل في الخلافة بتأييد جمال الدين أو غير جمال الدين، ولم يخف عليه أن «محمد عبده» هو زميل جمال الدين في سمعته العالمية بين المسلمين، ولكنه علم بعد ذلك موضع الخلاف بين جمال الدين ومحمد عبده في خطة السياسة، وأن هذه الجهود السياسية حول الخلافة وما شابهها لا تجري مع برنامج عمله، وليست مما يصرفه عن خطة الإصلاح من طريق التربية والتعليم متى وجد السبيل إليها، فيئس من موافقته على هذا المسعى، وكاد أن يحسبه عقبة يتخطاها قبل توطين النفس على نجاحه بموافقة سواه. •••
ولا نسهب في إحصاء حوادث الخلاف التي تتابعت بين الخديو والمفتي، واستحكم من أجلها الجفاء في النهاية بين هذين الرجلين اللذين خلقا للتعاون في هذا المجال الواسع لو كان للتعاون محل بين الاستبداد والعمل المستقيم، فإن من حوادث تلك السنين سفاسف وصغائر لا جدوى من تعدادها، ومنها دسائس ومكايد ليس أيسر من المواربة فيها، ولكننا نذكر منها ما يدل على طبيعتها التي يأباها كل إصلاح، ولا ينتظر من رجل ذي خلق وكرامة أن يغضي عنها أو يترخص بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس في قبولها.
فالخديو كان ينفق من أموال الأوقاف العامة على أوقاف أسرته وعلى مزارعه الخاصة، فكف يده عن ذلك فصل الحسابين ومراجعة المجلس للمصارف والموارد في «ميزانية الديوان» ... ولجأ إلى الحيلة - مع تشديد الرقابة على الميزانية - فاصطنع طريقة الاستبدال لحمل الديوان على إقامة المباني وتعمير الأرض البور ، وعرضها بعد ذلك للمبادلة بينها وبين مزارعه التي لا تساويها في القيمة ولا في الجودة، وكان أشهر هذه الصفقات صفقة أرض «مشتهر» وأرض ديوان الأوقاف التي أعدت للبيع في الجيزة بثمن أرض البناء، وفرق ما بينهما من الثمن لا يقل عن ثلاثين ألف جنيه، وظاهر الأمر أنها مبادلة بين مسيو اسمه زرفرداكي اليوناني الذي عرض على الديوان مزرعة مشتهرة باسمه وقسم المباني في الديوان، ولسوء حظ الخديو أن موظفا من كبار موظفيه في القصر كان مندوبا عن ولي الأمر بالمجلس الأعلى، فكان رأيه كرأي المفتي في هذه الصفقة وآراء الخبراء المختصين بتقدير المبادلات، وثبت من معاينتهم أن هناك نقصا في تقدير أحد البدلين، وزيادة في تقدير البدل الآخر تبلغ جملتها خمسين ألف جنيه، فغضب الخديو على موظفه الكبير وعزله من خدمته؛ لأنه لا يسأل عن سبب عزل الموظفين في ديوانه، ولكنه لم يستطع عزل المفتي لهذا السبب، ولا كان في حدود سلطته القانونية أن يعزله لغير سبب، فتحمل الأسباب للسخط عليه في غير مسائل الصفقات التي يتحاشى أن تثار للقيل والقال.
وكادت أوامره في الأزهر أن تكون إلغاء تاما لقوانينه التي وضعت لترفيه أحواله، وصيانة الكرامة الواجبة لعلمائه، ومنع العبث بدرجاته العلمية ومراتبه الدينية، فلم تكن كساوي التشريفة لعلمائه بأسعد حظا من الرتب والنياشين التي كانت تباع في الأسواق بأسعارها المحدودة لكل درجة من درجاتها، سوى أن الرتب والنياشين تباع بالمال وكساوي التشريفة تباع بالخدمات والسعايات في سوق الدعاية أو سوق المتاجرة باسم الدين. وإن لمن أغرب الخواطر التي خطر للخديو أن يسوم المجلس عليها أن يرسل إلى أحد الأعضاء من يقترح عليه الاستقالة، ويأمر رئيس المجلس أن يطلب كسوة التشريفة من الدرجة الأولى لإمام قصره تمهيدا لتعيينه خلفا للعضو المستقيل، وبهذا يتطوع المجلس لتحويل هيئته الموقرة إلى أداة تجري أهواء الخديو ولباناته مجرى القوانين، وتحوي تبعاتها أمام الناس على الرغم من أنوف المخالفين له من الأعضاء، ولا يبقى بعد ذلك أعضاء ينتظر منهم الخلاف غير محمد عبده وصاحبه عبد الكريم سلمان، فلما تأخر صدور الطلب من شيخ المجلس بالإنعام على إمام القصر بالكسوة المطلوبة، قال له مؤنبا في محفل التشريفات: ألم آمرك بتوجيه كسوة التشريفة إلى إمام معيتي بدلا من الشيخ الذي ينوي أن يستقيل؟ فتلعثم شيخ الجامع، وبادر الشيخ محمد عبده إلى الجواب قائلا: إن المجلس إنما يعمل بالقانون الذي أصدره سموه، فإذا بدا لسموه أن ينقضه ليجري الإنعام بالكساوي العلمية على حسب رغبات سموه الشخصية، فهو صاحب الشأن في إصدار القانون بالنظام الجديد.
وأكبر الظن عندنا أن تفويت المنافع لم يلهب من ضرام الغيظ في نفس الأمير ما ألهبه هذا الجواب الصريح من مفتي الديار. ومن مفتي الديار هذا؟ إنه عند العالم الإسلامي أكبر مقام ديني علمي في زمانه، ولكنه عند الأمير لا يعدو أن يكون فلاحا بين ألوف الألوف من أولئك العبيد الأرقاء، الذين خلقوا للسمع والطاعة عند كل أمر وكل سؤال.
صفحه نامشخص