عبقریت اصلاح و آموزش: امام محمد عبده
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
ژانرها
مفتاح سعادتي
كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية، وكثير من كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق، وتطهيرها من دنس الرذائل، وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا.
لم يأت علي اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلي ما كنت أحبه من لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلي ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم، وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في عشرة الشيخ رحمه الله، فكنت لا أحتمل أن أرى واحدا منهم، بل أفر من لقائهم جميعا كما يفر السليم من الأجرب.
وفي اليوم السابع سألت الشيخ: ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام. فقلت: أوليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال: ولو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب.
هذه الكلمات كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم ... متاع تلك الدعاوى الباطلة، والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهية.
سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا ورد لنا سوى القرآن، تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع من الفهم والتدبر. قلت: أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئا؟ قال: أقرأ معك، ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض الله عليك التفصيل، وإذا خلوت فاذكر الله - على طريقة بينها لي، وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن - فلم تمض علي بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد، واتسع لي ما كان ضيقا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا ... وتفرقت عني جميع الهموم، ولم يبق لي إلا هم واحد، وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس، ولم أجد إماما يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد ... هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي، وهو الشيخ درويش خضر من أهل (كنيسة أورين) من مديرية البحيرة، وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب من غريزتي، وكشف لي ما كان خفي عني مما ودع في فطرتي.
وفي اليوم الخامس عشر، مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة النصر) فأخبرني أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني، فعلمت أنها ستقول لوالدي إنني لا أزال في بلدة الكنيسة، فأصبحت مبكرا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنت أقمت له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لما اقتنع.
في ساحة الدرس
ذهبت إلى طنطا، وكان ذلك قرب آخر السنة في شهر جمادى الآخرة من سنة 1282 الهجرية، فاتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته، فعاقه الحزن عليها من إتمام شرح الزرقاني على العزية، وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الآجرومية، فأدركت كلا منهما في أوائل الكتاب الذي كان يدرس، وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله، وعرف ذلك مني بعض الطلبة، فكانوا يلتفون حولي لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقاه.
وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة، كنت أطالع بين الطلبة وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب ... فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله، من جد وجد ... ثم انصرف، فعددت ذلك القول منه إلهاما ساقه الله إلي ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا.
صفحه نامشخص