عبقریت اصلاح و آموزش: امام محمد عبده
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
ژانرها
أما هذه القرية الصغيرة في إقليم البحيرة - محلة نصر - فكانت من تلك القرى الممتازة بدوام اتصالها بالحياة الاجتماعية والحياة السياسية في سائر أنحاء البلاد، وتاريخها في خلال القرن الذي ولد فيه الأستاذ الإمام شاهد على هذه الصلة الدائمة بينها وبين كل حادث خطير من الحوادث القهرية، التي سجلت لنا أدوار التاريخ في الوطن المصري بحذافيره.
مارست العيش في ظل نظام الإقطاع، وسميت باسم محلة «نصر»؛ لأنها كانت إقطاعا لرجل بهذا الاسم، لم يبق من تاريخه ما يعرف غير هذه النسبة.
ولما نشأت أنظمة «التفاتيش» الزراعية التي خلفت عهد الإقطاع، كان أكبر هذه التفاتيش من أملاك الخديو إسماعيل على مقربة منها، أو على علاقة بأهلها، وإلى جوار هذا التفتيش بمركز السنطة هاجر أبو الأستاذ وعمه، وكان معهم - كما قال الأستاذ في تاريخه - قدر من المال يسمح لهم باستئجار أطيان يعملون فيها بأيديهم ومعونة شركائهم، فاشتهر والده بين أهلها «بالفتوة والبراعة في الصيد بالسلاح، فأحبه لذلك مصطفى أفندي المنشاوي ومحمد أخوه، وكانا موظفين في دائرة إسماعيل باشا الخديو؛ أولهما في وظيفة مفتش زراعة، والثاني في وظيفة ناظر، وطابت له صحبتهما، فعدوه كأنه واحد من أهلها، ودام ذلك مدة سنين».
وقد كان أهل «محلة نصر» يشعرون بتقلب الأحوال بين وال ووال من أبناء الأسرة الخديوية، فاعتقل بعض أهلها في زمن عباس الأول، ثم أفرج عنهم في عهد خلفه محمد سعيد، ومنهم والده وبعض رؤساء أسرة المنشاوي، لاتهامهم بحمل السلاح وإيواء بعض المطلوبين للخدمة العسكرية، في أشد أيام النقمة عليها.
ولم تنج المحلة الصغيرة من وباء الطاعون الذي فتك بكثير من سكان القطر في منتصف القرن التاسع عشر، فمات به جده «حسن خير الله» عن ولدين هما أبوه وعمه.
وكان للقرية مقامها الديني، أو كان هذا المقام هو نواتها الذي التفت به سائر مساكنها، وذلك أن أجداد محمد عبده كانوا يسكنون الخيام مدة من الزمن، ثم اتفق أن اتصل بهم شيخ يسمى عبد الملك لا يعرف نسبه، وكان معتقدا ينسبون إليه الكرامات، فاتخذ خلوة يتعبد فيها بالمحل الذي قامت عليه بعد ذلك «محلة نصر»، ثم توفي فنهض جدهم - وكان من بيت الشيخ - ببناء قبة له جعلوا لهم مساكن من حولها، وانضمت إليها بيوت كثيرة تألفت القرية من مجموعها بعد فترة وجيزة.
ولم تخل القرية من «قوتها الحيوية» التي أسلفنا في الكلام على القرية المصرية أنها كانت عدة الريفيين في مقاومة سلطان الطغاة الكبار، ومقاومة أعوانهم من الطغاة الصغار أصحاب الإقطاع أو أصحاب الالتزام؛ إذ كان هؤلاء الطغاة أعجز من أن يسوقوا الزارعين جميعا بعصا الإكراه، ولم يكن لهم بد من مداراة العلية البارزين منهم، ومصانعة الأسر التي تمكنت من مقاد أهل القرية بجاه الثروة أو بجاه الكثرة.
روى المؤرخ المشهور «علي مبارك باشا» أنه اطلع بين مراجعه المخطوطة على رحلة لعبد اللطيف البغدادي تعرف بالرحلة الكبرى، رأى فيها اسم محلتي نصر ومسروق، وقال إنه نزل ضيفا في بيت خير الله التركماني، وإن البيوت الكبيرة في البلد كانت ثلاثة: بيت الشيخ، وبيت خير الله، وبيت الفرنواني.
ويظهر أن بيت التركماني من هذه البيوت - وهم أجداد محمد عبده - كان أقواهم شكيمة وأعصاهم مقادا على سادة القرية من أصحاب الإقطاع والالتزام، فحاربوه وطاردوه ولم يكفوا عن متابعته بالمطاردة والاضطهاد، كأنهم أيقنوا أنهم لا يأمنون مقاومته وتمرده عليهم أو يستأصلوه، فلم يزالوا بعصبة جده لأبيه حتى اعتقلوا منهم نحو اثني عشر رجلا، وسعوا بهم لأنهم ممن يحمل السلاح ويقف في وجوه أعوان «السلطة» عند تنفيذ المظالم، ثم جاء دور أبيه بعد حين، فحورب في رزقه وعمله حتى هاجر القرية وقضى بعيدا منها نحو خمس عشرة سنة.
وليس في أخبار هذه الأسرة ما يدل على ثراء كبير في ماضيها البعيد أو القريب، ولكن كل خبر من أخبارها التي بقيت لنا يدل على كثرتها وسعة انتشارها في إقليم البحيرة وما جاوره من بلاد إقليم الغربية.
صفحه نامشخص