فمشوا أولا بين صفين من الجند في البهو الخارجي، حتى انتهوا إلى البهو الداخلي، فحالما وقع بصرهم على سرير الخليفة خروا سجدا لحظة، ثم نهضوا ومشوا بضع خطوات وعادوا إلى السجود. فعلوا ذلك مرارا إلا رجلا منهم كان خلفهم، وكان يحمل جعبة من الديباج على كفيه باحترام، فاكتفى بإحناء رأسه، ولما اقتربوا من سرير الخليفة تنحى الوفد إلا رئيسه، فتقدم وهوى على يد الخليفة يقبلها، فمنعه الناصر من ذلك، وأشار إليه أن يجلس هو ورفاقه على وسائد من الديباج مطرزة بالذهب، أعدت لهم على بعد عشرة أذرع من السرير تقريبا
3
فجلسوا، إلا حامل الجعبة.
الفصل الرابع عشر
الهدية
وبعد برهة أذن لهم الخليفة بالكلام، وكان يخاطبهم عن طريق التراجمة، فنهض رئيس الوفد وتقدم إلى سرير الخليفة باحترام، وقدم له تلك الجعبة بعد أن تناولها من حاملها، فأشار الخليفة إلى من يفتحها، ففتحها أحد الخصيان فوجد داخلها درجا من الفضة عليه غطاء من الذهب، قد نقشت عليه صورة قسطنطين الملك مصنوعة من الزجاج الملون البديع، ففتح الدرج فوجد فيها كتابا من ورق مصبوغ بلون سماوي مكتوبا بالذهب بالخط الإغريقي (اليوناني)، هو كتاب صاحب القسطنطينية (قسطنطين بن ليون) إليه، وداخل هذا الكتاب مدرجة (رسالة) مصبوغة أيضا ومكتوبة بالفضة بالحروف اليونانية.
1
فتناول الخليفة الكتابين وأخذ يقلب فيهما، فوجد على الكتاب الأول طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة السيد المسيح، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك، وصورة ولده، وأما المدرجة ففيها وصف هدية قسطنطين للخليفة عبد الرحمن الناصر التي كان أرسلها مع الوفد وعددها.
وكانت أنظار الجالسين متجهة إلى ما يتضمنه ذلك الكتاب، فأشار الخليفة إلى من يترجمه، فقرءوا العنوان على ظاهره ما ترجمته: «قسطنطين ورومانين المؤمنان بالسيد المسيح، الملكان العظيمان، ملكا الروم» في سطر ثم: «العظيم الاستحقاق والفخر، الشريف النسب، عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه» في سطر آخر، فأمر الخليفة من يتولى الاحتفاظ بالكتاب ويستلم الهدية، فاستوقف انتباهه منها اسم كتاب فرح به أكثر من سائر الهدية، وهو كتاب «الحشائش» تأليف ديسقوريدس العالم النباتي المشهور، فأمر الخليفة بإحضار الكتاب للاطلاع عليه، فأتوه به، فإذا هو مكتوب بالخط الإغريقي، وقد صورت فيه الحشائش كلها بالتصوير الرومي العجيب. وجاء مع هذا الكتاب أيضا كتاب هروشيوس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم فيه أخبار العصور، وقصص الملوك باللغة اللاتينية، وكان في جملة ما كتبه إليه:
2 «إن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن فهم اللغة اليونانية، ويعرف طبيعة هذه الحشائش، فإن كان في بلدك هذا الرجل فزت أيها الملك بفائدة الكتاب. وأما كتاب هروشيوس فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللغة اللطينية، وإن عرضته عليهم نقلوه من اللطينية إلى اللغة العربية.»
صفحه نامشخص