قال سعيد: «نعم يا سيدي.»
فقال الناصر: «بورك فيك. إنك تصلح لكل شيء» والتفت إلى عابدة وقال: «أسمعينا، أو تمهلي لنسمع صوتا من غناء أهل الأندلس.» وصفق وأصغى الجميع، فخرج من وراء الستار صوت عود بصناعة جيدة، وكان أكثر الناس إصغاء سعيد، ثم سمعوا الغناء فطرب الناصر طربا شديدا، حتى إذا فرغ الغناء وراء الستار نظر الناصر إلى عابدة كأنه يستطلع رأيها فيما سمعته، فقالت: «إنه صوت مطرب سمعت مثله ممن يحفظ غناء زرياب المغني.»
فقطع الناصر كلامها قائلا: «غناء زرياب؟ صدقت، إن هذا المغني هو الذي حمل هذه الصناعة إلى الأندلس، وقد قال الذي نقل هذا الصوت إلينا إنه من أصوات زرياب، فأسمعينا ما عندك من غناء بغداد.»
وكانت قد أصلحت القانون فتناولته واعتدلت في مجلسها، وجعلت تعزف عليه عزفا لم يسمع الناصر مثله، وكان قد استخفه الطرب وهاجه الشراب فجعل يحرك يديه ورجليه ويزحف عن سريره، فاغتنمت عابدة تلك الفرصة وغنت صوتا لإبراهيم بن المهدي أحسنت توقيعه وأداءه، فلم يتمالك الناصر أن صاح من الطرب: «لله درك من مطربة معربة! زيدينا زادك الله جمالا وصنعة!»
فغنته صوتا آخر على لحن زاده طربا، وأشار إلى الجواري أن يسقينه، فدارت الأقداح وسعيد يظهر أنه يشرب ولا يشرب، وكذلك عابدة، فلما أحس سعيد أن الشرب أخذ من الناصر أشار إلى عابدة، فأصلحت العود على إصلاح الفارابي كما فعل في حضرة سيف الدولة، ففعلت فغلب على الناصر الضحك وأغرب فيه، وسعيد يرقب ما يبدو وراء الستار، فسمع همسا وضحكا فأدرك أن ضحك الناصر وشدة طربه من غناء عابدة يهيجان حسد الزهراء.
الفصل الثالث والأربعون
نحنحة من وراء الستار
وبينما هم في ذلك، إذ سمعوا نحنحة من وراء الستار، لم يفطن لها إلا سعيد، وراقب ما يبدو من الناصر بعدها، فرآه انتبه لنفسه بغتة وأمسك عن الضحك، وقال لعابدة: «لقد أطربتنا بارك الله فيك.»
فأدرك سعيد أنه يريد فض الجلسة، فأومأ إلى عابدة فتحفزت للنهوض فلم يدعها الناصر للبقاء، لكنه أشار إلى قيمة الجواري الواقفات للخدمة أن تزيد عابدة حفاوة، فمشت بين يديها إلى غرفتها.
وتحفز سعيد للنهوض والاستئذان، فأومأ إليه الناصر أن يمكث، فمكث، ونهض الناصر ودخل من باب يؤدي إلى غرفة أخرى، وأشار إلى إحدى الجواري فدخلت وراء الستار، فشعر سعيد أنه بعث إلى الزهراء لتمضي إليه، فلبث يفكر فيما عسى أن يكون سبب تلك الدعوة، ولم يبق في تلك القاعة سواه.
صفحه نامشخص