عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرها
ولا غنى - مع التخصص - من الترتيب على أنواعه، ومنها ترتيب أوقات المرء حسب أشغاله وإهمال ما لا يتسع الوقت له أو تفويضه إلى غيره، ومنها ترتيب النفقة على قدر الكسب المضمون، ومنها ترتيب أمر المستقبل «لإراحة نفسه من الكد في دور العجز من حياته، فيربي أولاده ذكورا وإناثا» ليستغني كل منهم بنفسه متى بلغ أشده.
ومن الترتيب المطلوب أن يرتب المرء أموره الأدبية على نسبة حالته المادية، وأن يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعداده، فلا يتطاول إلى مقامات لا يبلغها. •••
ويكثر الكواكبي من الحض على التشبه بالغربيين في بعض صفاتهم القومية، وأشرفها في تقديره صفات الولع بالمعرفة واليقظة الاجتماعية والاستعداد بالقوة والمنعة، ولكنه يشفق من الإفراط في الإعجاب بأمم الغرب أن يئول إلى استكانة الشرقيين أمامها، وفقدانهم للثقة بأنفسهم في معاملتها، ويعيب على غالب أهل الطبقة العليا من الأمة - كما قال بلسان السيد الفراتي أو بلسانه هو في أم القرى - «أنهم ينتقصون أنفسهم في كل شيء، ويتقاصرون عن كل عمل، ويحجمون عن كل إقدام، ويتوقعون الخيبة في كل أمل. ومن أقبح آثار هذا الخور نظرهم الكمال في الأجانب واتباعهم فيما يظنونه رقة وطرافة وتمدنا، وينخدعون لهم فيما يفشونهم به كاستحسان ترك التصلب في الدين والافتخار به ...»
وهو على إعجابه بالمستحسن من أخلاق الأوروبيين القومية لا يرى أنهم سلموا من العيوب في جملة أخلاقهم القومية، ويأخذ عليهم - كما قال في باب الاستبداد والأخلاق من «طبائع الاستبداد» - أنهم ماديون و«أن الغربي حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق. فالجرماني مثلا جاف الطبع، يرى أن العضو الضعيف الحياة من البشر يستحق الموت، ويرى كل الفضيلة في القوة، وكل القوة في المال، فهو يحب العلم ولكن لأجل المال، ويحب المجد ولكن لأجل المال. واللاتيني مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشرف في الزينة، واللباس والعز في التغلب على الناس».
وهذه هي المآخذ التي يقابلها عند الشرقيين - كما قال بعد ذلك - «أنهم أدبيون يغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحب والإصغاء للوجدان، والميل للرحمة ولو في غير موقعها، واللطف ولو مع الخصم، والفتوة والقناعة والتهاون في المستقبل؛ ولهذا ليس في شأن الشرقي أن يجوز ما يستبيحه الغربي، وإن جوزه لا يحسن استثماره ولا يقوى على حفظه ... ويهتم في شأن ظالمه المستبد، فإذا زال لا يفكر فيمن يخلفه».
بل هو يرى للشرق رسالة باقية في هداية الإنسانية وإنقاذها من طغيان الحضارة المادية التي يتمادى فيها الغرب، ويوشك أن يتردى في هاوية من عواقبها لا نجاة له منها بغير مدد روحاني من الشرق كالمدد الذي تلقاه العالم من أديانه الأولى، ويناشد الغرب في ختام كتاب طبائع الاستبداد فيقول: «يا غرب! لا يحفظ لك الدين غير الشرق إن دامت حياته بحريته؛ وإن فقد الدين يهددك بالخراب القريب!» ويسترسل سائلا وكأنه ينظر بلحظ الغيب إلى طغيان مذاهب الهدم الجحود: «ماذا أعددت للفوضيين إذا صاروا جيشا جرارا؟ هل تعد لهم المواد المفرقعة وقد جاوزت أنواعها الألف؟ أم تعد لهم الغازات الخانقة وقد سهل استحضارها على الصبيان؟!» •••
فمساك التربية القومية فيما أوصى به الكواكبي أنها نهضة مفتوحة العينين تمضي على بصيرة وثقة، ولا تستسلم للإعجاب الذليل ولا للمحاكاة العمياء، وأنها ملكة «تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، أهم أصولها وجود المربين، وأهم فروعها وجود الدين».
وما من أمة تأخذ بأسباب هذه التربية يعييها أن تدرك الغاية من نفعها، وأول هذه الأسباب صدق الرجاء في إدراك تلك الغاية - كما قال في مقدمات أم القرى: «فلا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور؛ كي لا نيأس من روح الله، ولا نتوهم الإصابة في قول من قال إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال إذا نزل الضعف في دولة أو أمة فلا يرتفع؛ فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وغيرها، كلها أمم أمثالنا استرجعت شأنها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية.»
وإنما هي حضانة علم وحضانة أخلاق، وعشرون سنة تقوم بحضانة العلم، وأربعون سنة تقوم بحضانة الأخلاق، إذا كانت عشرون سنة كافية لتخريج فئات من المتعلمين يبتدئون الدراسة من مكاتب التعليم الأولى وينتهون بها إلى معاهد التخصص والإحاطة بأدوات العمل والصناعة، وإذا كانت تربية الأخلاق إنما تتم بتدريب الجيل كله على سنتها وعادتها، وحدها الأوسط أربعون سنة تنتقل بالأمة من جيل إلى جيل. •••
وتتبع التربية القومية؛ بل تسبقها في دور النهضة، تربية «المربين» أو الزعماء الذين يقودون الأمة ويرسمون لها طريقها ويصبرون على تدريبها وتصحيح أخطائها.
صفحه نامشخص