عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرها
ثم كشف عن أسباب تلك المبالغة في التقية حين قال بعد ذلك:
فإذا علم السياسيون هذه الحقائق وتوابعها لا يتحذرون من الخلافة العربية؛ بل يرون من صوالحهم الخصوصية وصوالح النصرانية وصوالح الإنسانية أن يؤيدوا قيام الخلافة العربية بصورة محدودة السطوة مربوطة بالشورى على النسق الذي قرأته.
فالكواكبي «الدبلوماسي» السياسي هنا أظهر من الكواكبي الثائر، و«أم القرى» هنا أسلوب من العمل غير أسلوب «طبائع الاستبداد»؛ فإن الكواكبي الثائر لم يقبل من المسلم أن يذعن للغضب والسيطرة في حكومة مسلمة، ولم يحمد منه أن يستكين لتداول الدول وحكم الأيام جهلا بمعنى التسليم للقضاء، وإنما هي مزالق الحيلة لا تؤمن مزلتها في طريق الثورة، ولا سلامة من عثراتها قبل استوائها على جادتها المثلى.
على أن الكواكبي الثائر كاد أن يتكشف لقارئه في «أم القرى» وفي صدد الكلام على الخلافة والدول الأجنبية، حيث قال وهو يتكلم عن القضية الخامسة والأربعين: «إذا صادفت الجمعية معارضة في بعض أعمالها من حكومة بعض البلاد - ولا سيما البلاد التي هي تحت استيلاء الأجانب - فالجمعية تتذرع «أولا» بالوسائل اللازمة لمراجعة تلك الحكومة وإقناعها بحسن نية الجمعية، فإذا توفقت لرفع العنت فيها، وإلا فلتلجأ الجمعية إلى الله القادر الذي لا يعجزه شيء ...»
ومراد الكواكبي من عبارته هذه واضح عند من يفهم أن اللجوء إلى الله «القادر الذي لا يعجزه شيء» يعني كل شيء غير التسليم والنكوص عن العمل الذي بدأ وتقدم وتمت له أسباب التدبير. •••
إلا أن القارئ يستطيع أن ينفذ إلى الغاية الجوهرية في أمر الدولة والخلافة من وراء الخطط أو النماذج العملية التي تصلح لبعض الأزمنة ولا تصلح لغيرها، والتي رسمتها الحوادث للكواكبي ولم يرسمها لنفسه باختياره، ولعله كان يعيد فيها النظر لو تراخى به الأجل فيمحو منها ويثبت ويزيد عليها وينقص منها، ولا يدعها لخلفائه - بأية حال - على الصورة التي بقيت لنا بعد نصف قرن من وفاته.
فإذا نفذ القارئ من وراء تلك الخطط الموقوتة إلى الغاية الجوهرية، فلا نزاع في تلك الغاية ولا في الإيمان بأن الوصول إليها هو مبعث الدعوة التي اضطلع بها وصمد عليها، وخلاصتها في كلمات معدودات: أن دعوى الخلافة في القسطنطينية لا ينبغي أن تعوق الأمة العربية عن نهضة الإصلاح والحرية.
الفصل السادس عشر
النظام السياسي
علوم السياسة أقرب العلوم إلى أن تكون «اختصاصا» للكواكبي بين دراسات عصره، نفهم ذلك من كلامه في مقدمة «طبائع الاستبداد»، كما نفهمه في مباحث الكتاب كله؛ لأنها مباحث مشروحة على إيجازها لا يجول فيها قلم كاتب لم يتوسع في هذه الدراسات.
صفحه نامشخص