عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرها
وهي التي عناها حين قال بلسان البليغ القدسي عن الدخلاء: «إنهم رجحوا الأخذ بما يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية فاتخذ العمال السياسيون - ولا سيما المتطرفون منهم - هذا التخالف في الأحكام وسائل للانقسام والاستقلال السياسي؛ فنشأ عن ذلك أن تفرقت المملكة الإسلامية إلى طوائف متباينة مذهبا، متعادية سياسة، متكافحة على الدوام، وهكذا خرج الدين من حضانة أهله، وتفرقت كلمة الأمة فطمع بها أعداؤها ...»
وتلك الفلسفة التي جعل صلاح المسلمين مرهونا بتطهير العقيدة الإسلامية من بقاياها؛ هي منطق الجدل الذي قال إن الغربيين أهملوه وحققوا أنه لا ثمرة له «مع أنهم يعتنون بالبحث عن وسائط تفاهم العجماوات».
ونحسب أن حسنات المنطق وفلسفاته التي تتشعب منه أحرى أن تقبح في عيني أنصاره وعشاقه إذا وازنوا بين فوائده ومضاره، كما لمسها الكواكبي في عصره وفيما تقدمه من عصور الثقافة الإسلامية ... فإن أحسن ما في المنطق وفلسفاته الجدلية لا يعدو أن يكون تمرينات عقلية يتدرب بها الذهن على فتح أبواب البحث في المسائل النظرية ومسائل الغيب - أو ما وراء الطبيعة - التي قلما تسفر عن نتيجة قاطعة في موضوع من موضوعاتها، ومن خصائص هذه الموضوعات أنها ثقافة فردية يديرها المفكر في تأملاته بينه وبين نفسه، ولا تتألف منها دراسة عامة تتداولها الجماعات وتنتفع بها في مرافقها ومطالب تفكيرها، وقد غابت هذه الفلسفات الجدلية عن ميادين الثقافة الأوروبية قبل النهضة العلمية، فلم يكن غيابها ليعوق ظهور العلوم التجريبية، ولا ليعوق ظهور الصناعات والمخترعات التي تفتقت عنها تلك العلوم؛ بل يجوز أن يقال إن تلك العلوم قد ظهرت على الرغم من اعتراض المناطقة والمتفلسفين عليها وإنكارهم لوسائلها وأساليبها؛ إذ كان المناطقة المتفلسفون يصرون على آرائهم التي تقوم على براهين الجدل والمناظرة ويرفضون ما عدا تلك الآراء من قواعد البحث والتجربة، فغياب الفلسفات الجدلية لم يعطل في الغرب نهضة العلوم والصناعات؛ بل قليلها الذي بقي بين أنصاره وعشاقه هو الذي عطلها وأوشك أن يغلق عليها منافذها.
وهذه هي الفلسفات المنطقية على أحسنها في أضيق حدودها، فلا جرم تنزوي عن أعين أنصارها وعشاقها - فضلا عن منكريها - إذا حكموا عليها بأضرارها ونظروا إلى جرائرها التي تخلفت عنها كلما وصلت إلى عقول الجماعات وتلبست بالمذاهب والمعتقدات، وانتشرت على الصورة التي تنتشر بها الأفكار بين العامة وأشباه العامة، وتنتقل بها من لغة الرموز الخيالية والفروض المحتملة إلى لغة الواقع المجسم والشعائر المحسوسة والأشباح الظاهرة التي تعقلها الجماعات ولا تعقل فيما بينها فكرة مشتركة سواها.
إن أضرار الفلسفات الجدلية كانت حقيقة واقعة في كل أمة تسربت إليها، وكان أثرها في الأمة الإسلامية شبيها بأثرها بين اليهود وبين المسيحيين وبين أتباع «زرادشت» من المتقدمين والمتأخرين، لحاجة لا تنتهي وخصومات لا تنحسم ومماحكات على الصغائر والسفساف من القول لا طائل تحتها على حالي الثبوت أو البطلان، وجملة ما يقال عن آثارها في عالم العقيدة أنها تفسد بساطتها وتشوب صفاءها، وعن آثارها في عالم الثقافة أنها تثير المشكلات ولا تحلها، وتشغل مكان العلم ولا تئول به إلى عمل مفيد.
والنظرة العملية في طبيعة الكواكبي هي التي زهدته في ذلك المنطق وفلسفاته، وأوحت إليه أن البحث في لغة الحيوان الأعجم أولى وأصلح من البحث فيها، وقد تأصل في روعه هذا الرأي الثابت نتيجة لمطالعاته ونتيجة لمشاهداته الملموسة في وقت واحد.
فمن مطالعاته عرف غوائل الفتن التي أشاعها في العالم الإسلامي جدل المتفلسفين حول مسألة القدر ومسألة الصفات ومسألة القرآن وخلقه ومسألة الآيات وتأوليها، وأشباه ذلك في مسائل الإمامة الصريحة والمستورة أو الشريعة الظاهرة والعاطفة أو القياس والتقليد، وما انتهت إليه هذه المسألة خاصة من اجتراء المقلدين على رأي لم يجترئ عليه أعظم المجتهدين، وهو الرأي القائل بتحريم الاجتهاد على المسلمين جميعا بعد عصر التابعين، أو على الأكثر بعد تابعي التابعين.
ومن مشاهداته المحسوسة عرف وبال التصوف الكاذب والفلسفة الناقصة على ألوف من معاصريه الذين تلقفوا البدع وتوارثوها من دعاة العلوم الدخيلة بين وثنية ويونانية؛ فقد كان من وبال التصوف الكاذب والفلسفة الناقصة أنه هدم العلم والعمل، وأفسد الدين والخلق، وأشاع البطالة والإباحة بين من يسمون البطالة «اتكالا على الله»، ويسمون الإباحة وصولا يسقط الحدود ويسمح بالرخصة في المحظورات.
رأى الكواكبي أثر العلوم الدخيلة في النوبتين الأولى والثانية، فاحتكم إلى الواقع وإلى النتيجة العملية في موقفه الحاسم بينهما؛ فأما العلوم الدخيلة فيما مضى فقد كان أثرها مفسدة للعقيدة في بساطتها ومدرجة إلى العجز والفتنة في الحياة العامة، وأما العلوم الدخيلة في عصره فقد كان أثرها الواضح قوة لأصحابها وغلبة لهم على الجاهلين بها، وهداية إلى المصلحة والعمل والمعرفة بأسباب الحياة الواقعة، ولم تكن هذه المعرفة عنده بحاجة إلى برهان يؤيدها غير نتائجها الماثلة في سياسة الأمم وصناعتها وأدوات نجاحها واقتدارها.
فليست مهمة المصلح الحكيم أن يحارب هذه العلوم الدخيلة كما حارب أخوات لها من قبل، ولكن مهمته على نقيض ذلك؛ أن يرحب بها ويجتهد في نقلها واقتباسها ويتخذها سبيلا من سبل الإصلاح، وينظر كيف يقنع باسم الدين من يعارضون الإصلاح باسم الدين؛ لأنه جديد ولا محل للجديد عند الجامدين على القديم.
صفحه نامشخص