عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرها
قال: «ولما رأى رشيد باشا الكبير أن لا سبيل للإصلاح إلا بعهد يناسب الزمان، اغتنم فرصة جلوس السلطان الغازي عبد المجيد خان وأصدر منه الخط الشريف المعروف بخط كل خانة، وفيه قرر ذات الخليفة رفع قوانين المصادرة، وأوجب العمل بالشرع وعدم سفك الدماء بلا حق، ورأى تنظيم النظامات والقوانين المطابقة لأحوال الشريعة. ولكن علم رشيد باشا أن هذا العهد لا يزيد على العهد الذي استحصل عليه مصطفى باشا العلمدار الشهيد من قبل، ولم تغن عنه الجامعة العثمانية، فأحب أن يأمن على مشروعه فحصل على قيد في ذلك الخط الشريف، ألا وهو إشهاد الدول على هذا المشروع، وصرح بذلك في الخط الشريف، فمهد للدول بهذا العمل مبادئ مسوغات التداخل الأجنبي بدعوى التأمين على الحقوق والأرواح، فنفع من جهة وأضر من جهة أخرى.»
ويفهم من كلام الطويراني بعد ذلك أن سياسة السلطان العثماني كانت تتراوح في عصره بين وجهتين: وجهة الخلافة ووجهة الملك على نظامه الحديث في البلاد الأوروبية، لعله يدفع عنه غائلة التعصب الأوروبي بمجاراة العصر في نظمه السياسية.
قال المؤلف الذي يبدو من سيرته ومن أقواله أنه كان على معرفة بمجرى السياسة العليا في زمانه: «ثم رأى العثمانيون رأيا آخر بعد ثمان وعشرين سنة، واحتجوا بأن احتياجات الدولة تضطرها إلى مبدأ مدني يكفي لمقابلة التزاحم السياسي، وهنالك صدر القانون الأساسي مصدقا عليه من جلالة مولانا السلطان الأعظم، وانعقد بمقتضاه مجلس الأمة مدة ثم رئي أنه غير مناسب للحال فلم يجتمع بعدها، أما أعضاء مجلس الأعيان فلا يزالون موظفين وإن لم يجتمعوا، لكن لما كان إلغاؤهما مخلا بالقانون الأساسي العثماني لم يلغيا بالكلية، ولم تزل القوانين موقتة ينتظر الحكم عليها بالدوام إلى ما بعد عرضها على المجلسين إن اقتضت الحكمة إعادتهما.»
وظلت حالة التردد بين وجهة الخلافة ووجهة الملك على هذا النحو الملتبس حتى نشطت دعوة الخلافة، ونشطت معها دعوة الجامعة الإسلامية في وقت واحد بعد ولاية عبد الحميد بسنوات قليلة، وعلى أثر انعقاد مؤتمر برلين وافتضاح مؤامرات التقسيم التي اتفقت عليها الدول الكبرى لانتزاع بلاد الدولة العثمانية من سيادتها بغير فارق بين الإسلامية منها وغير الإسلامية.
ولا خفاء بمقصد السلطان عبد الحميد من دعوته إلى الجامعة الإسلامية باسم الخلافة العثمانية، فما كان لمثله في حصافته ودهائه أن يطمع في سيادة فعلية على بلاد المسلمين باسم جامعة الإسلام، فإن أهون ما في هذا الطمع من الخطوب الجسام يوقعه في حروب لا طاقة له بها مع عصبة المستعمرين التي تملك كثيرا من بلاد الإسلام أو تتطلع إلى امتلاكها، وقد يوقعه هذا الطمع في حروب مع الأمم الإسلامية التي لا تزال على شيء من الاستقلال ولو كانت في ظل سيادته العامة، وهي السيادة «الاسمية» التي كانت تربط بعض الأمم بدولة آل عثمان منذ فتوحها الأولى.
فغاية الأمر فيما قصد إليه السلطان عبد الحميد من دعوته إلى الجامعة الإسلامية باسم الخلافة أن يحتمي بعطف العالم الإسلامي في وجه التعصب الأوروبي المطبق عليه من كل جانب، وأن يستمع العالم الإسلامي إليه حين يناديه بتلك الصفة؛ لأنه أكبر ولاة الأمر فيه وأعظمهم مركزا في مراسم السياسة الدولية، ولم يكن يخفى عليه أن العالم الإسلامي لا يقارع المسلمين سلاحا بسلاح ولا ثروة بثروة ولا نفوذا بنفوذ، ولكنه كان يقنع منه بما يستطيعه في كفاح الاستعمار ويعلم أنه يستطيع الكثير مما يخشاه المستعمرون، وبعض هذا الكثير المخشي أن يقلق حكوماتهم وشركاتهم ويقاطع متاجرهم ويدخل بينهم بالتأييد والخذلان في خصوماتهم، ويثير عليهم رعاياهم المتمردين ممن يستثارون باسم الحرية والمبادئ الديمقراطية ويجدون في العمل على التفرقة بين شئون الدين وشئون السياسة، وقد كان للسلطان عبد الحميد خبرة بهذا الفن من فنون الدعاية شهد به الغربيون والشرقيون، وبلغ من خبرته به أنه كان يستخدمه لتأليب فريق من رعاياه على فريق، وتنفير طلاب الإصلاح أنفسهم ممن يحرجونه بطلب الإصلاح على غير هواه.
وعرف دعاة الجامعة الإسلامية جميعا غاية ما يراد من هذه الدعوة باسم الخلافة العثمانية أو باسم الإسلام على التعميم.
فالسيد جمال الدين الأفغاني - أكبر دعاة الجامعة في عصره - يصرح بغاية الجامعة التي يدعو إليها فيقول من رسالة عن الوحدة الإسلامية:
لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان أمرا عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه، إلا أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم تفضي به الضرورة وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات.
هذا أوان الاتفاق، ألا إن الزمان يؤاتيكم بالفرص، وهي لكم غنائم، فلا تفرطوا ... إن البكاء لا يحيي الميت، إن الأسف لا يرد الفائت، إن الحزن لا يدفع المصيبة، إن العمل مفتاح النجاح ...
صفحه نامشخص