عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
ژانرها
هذه نبذة عاجلة عن حركات الغرب في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أوجزنا فيها القول عن أمم أربع من أممها التي سرت أخبارها وأخبار قضاياها إلى الشرق العربي وبلاد الدولة العثمانية، وهي على تفاوتها في كل ظاهرة من ظواهر السياسة والثقافة تشترك في خصلة لا تغيب عن واحدة منها في خبر من أخبارها، وهي المطالبة بالحقوق والحريات.
فإذا كانت قارة الاستعمار قد حصرت خطتها حيال الشرق في سياسة واحدة تريدها وتتعمدها لتقهره وتتغلب عليه، فهناك سياسة أخرى لم تردها ولم تتعمدها، تلقاها الشرق منها، فهب لمقاومتها وتيقظ لمطامعها ونزل معها في ميدانها الذي استفزته له باختيارها وبغير اختيارها. •••
وقد جاء رد الفعل المنتظر بعد برهة من السبات والذهول من أثر الصدمة التي كانت تنتقل وتشتد، كلما تنقلت بين أقطار الشرقين البعيد والقريب من اليابان في أقصى الشرق الآسيوي إلى مراكش في أقصى الشرق الأفريقي، وقد أصبحت هذه «شرقا» في حساب الاستعمار وإن كانت تناوح في الموقع الجغرافي جارتها أوروبة الغربية.
ونقصر الكلام هنا على الشرق العربي كما كان في أواسط القرن التاسع عشر إلى ما بعد مولده بقليل، ففي تلك الفترة كانت مصر قد ظفرت بحصة كبيرة من الحكومية الذاتية، وكانت لبنان قد خرجت بعد الفتن والأزمات بنصيبها المقرر من الامتيازات الداخلية، وكادت جزيرة العرب تتفرد بالدعوة الوهابية وتوشك أن تمتد منها إلى قلب العراق، وكانت العراق في صراعها مع حكم المماليك تتقدم في خطى سراع إلى الخلاص من ذلك الحكم المضطرب بين الكساد والوباء، وعلمت الدولة العثمانية أنها تحتاج لاستبقائه وإعادة الأمن فيه إلى نظام من الحكومة الدستورية غير نظام الولايات المهملة أو الولايات المسخرة لسادتها على غير إرادتها، فأرسلت إليه أكبر وزرائها في عصره «أحمد مدحت باشا» الملقب بأبي الدستور، فأقام فيها نظام الحكم على أساس الحرية والمصلحة العامة على خير ما يستطاع في تلك الآونة، وافتتح فيها عهد الحياة العصرية التي وصلت بينها وبين أمم الحضارة.
وكانت ولاية حلب - مع سائر الولايات السورية - قد اتصلت بمصر زهاء سبع سنوات، ثم ثارت على حكم إبراهيم بن محمد علي سنة 1840، فأعيدت إلى الدولة العثمانية على وعد بالإصلاح وتنظيم الإدارة على أساس جديد، وكان الشروع في الإصلاح وتنظيم الإدارة حقيقة واقعة منذ قيام السلطان محمود الثاني «بين سنتي 1808 و1839»؛ لاضطرار الدولة أولا إلى إصلاح جيشها واضطرارها بعد ذلك إلى تسوية المشكلات القائمة بين رعاياها المختلفين في الجنس والدين واللغة، فإن الهزائم المتوالية أقنعت أولياء الأمر في القسطنطينية بالحاجة الملحة إلى تنظيم جيش جديد، تستخدم فيه الأسلحة الحديثة وأساليب التعبئة في الدول الأوروبية، ثم تبين لهم أن تعديل أنظمة القضاء والتشريع وإدارة الدواوين ضرورة لا محيص عنها لسياسة رعاياهم ومدافعة الدول الأوروبية التي كانت تتعلل بفساد الحكم في الدول التركية للتدخل في شئونها بدعوى الإنسانية تارة ودعوى الامتيازات الأجنبية تارة أخرى، فتحدث الناس بوعود الإصلاح وأعماله ومشروعاته وحقوق الرعية وواجبات الرعاة قبل مولد الكواكبي، كأنهم يتحدثون بدين يلويه المدين بين السداد والمطال.
ولعلنا ندرك حقيقة الحال ونعلم أن وعود الإصلاح كانت ضرورة لازبة، ولم تكن إنعاما ولا إحسانا من أولياء الأمور، إذا نظرنا إلى بقاع العالم العربي فلم نجد فيه بقعة واحدة رضيت بما هي فيه، ولم ينهض أهلها للمطالبة بنوع من الإصلاح على نحو من الأنحاء، فتحرك السودان وتحركت الصحراء وتحركت قبائل المغرب في ثورتها؛ بل في ثوراتها التي تكررت ولا تزال تتكرر إلى اليوم، وصدق على العالم العربي بين أطرافه المترامية قول القائلين في الغرب: إنه مارد خرج من القمقم ولن يعود إليه.
وكان في الحق ماردا هائلا يتململ في الأسر ليخرج من قمقمه المظلم المحصور، ولكنه لم يكن ماردا معصوب العينين كما صوره أولئك الراصدون للقمقم، أو كما أرادوا أن يتصوروه؛ إذ كان للمارد زمامه في أيدي الهداة من القادة الملهمين ومن رواد الثقافة الأولين، وكان لهذه الهداية بين المسلمين وغير المسلمين طابع الشرق الخالد منذ الأزل، طابع العقيدة والإيمان. •••
في القارة الأوروبية حكم التاريخ حكمه بعد النزاع القائم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، فوهم العلماء في مطلع الثقافة الحديثة أن هذه الثقافة حرب بين العلم والدين، فلما انتقلت ثقافة الغرب إلى الشرق تلقاها المسيحي في المدارس من رجال دينه، وتلقاها المسلم مستجيبا لنداء «العودة إلى الدين» على كل لسان يسمع منه الوعظ ويقبل منه الإرشاد، فقد وقر في الأخلاد أن المسلمين هجروا دينهم فحاق بهم بلاء الذل والضياع، واتفق الجامدون منهم على القديم والمتطلعون إلى الجديد على هذا النداء، فلا خلاف بينهم إلا على الرجوع إلى الدين كيف يكون.
وربما قال الجامدون قبل المجددين : إن الأوروبيين عملوا بأدب الإسلام فأعدوا العدة ونظروا إلى حكمة الله في خلقه فتقدموا وتأخر المسلمون.
وتباعدت الشقة بين المحافظين أنصار النص والحرف، وبين المجددين أنصار المعنى والقياس فاختلفوا على الكثير، ولكنهم مع اختلافهم هذا لم يتفقوا على شيء كما اتفقوا على حرب الخرافة وعقائد الجهل والشعوذة الدخيلة على الدين، فحاربها المحافظون الحرفيون؛ لأنها بدع مستعارة من بقايا الوثنية، وحاربها المجددون لأنها سخافات وأباطيل ينقصها العلم الحديث، وتراجعت هذه السخافات والأباطيل إلى غيابة الجهل، لا تجترئ على التقدم إلى صفوف القيادة المسموعة بين أنصار القديم ولا بين أنصار الجديد.
صفحه نامشخص