أما في أثناء ولاية العهد فكان لا يزال في أول رغبته في هذا الطرب الدخيل.
فكان الغلمان يدخلون أفواجا وشعورهم مسترسلة جدائل مفردة ومزدوجة، وفي أيديهم الدفوف أو المزاهر أو العيدان يدقون ويغنون، والأمين يطرب لكل صوت ويقهقه ولا يطلب شرابا؛ لأنه ينوي الشرب في المصطبة.
الفصل الخامس والعشرون
مجلس طرب
فلما مر الجميع أشاروا إلى القيم إشارة أخرى، وأشار إلى رفيقيه فنهضا وسارا بين أيديهم، وقد فتح لهم القيم بابا في صدر القاعة خرجوا منه ونزلوا بضع درجات إلى دهليز في جانبيه أبواب مقفلة تؤدي إلى غرف وقاعات عديدة، وفي نهاية الدهليز وصلوا إلى المصطبة، وكأنهم خرجوا من الخباء إلى الخلاء، فوجدوا المكان على سعته قد فرش بالنمارق والطنافس، وفي صدره فرش عالية فوق سرير من الأبنوس المطعم بالذهب لا يرتقى إليه إلا بكرسي، وحوله عدة مقاعد ووسائد فوق الطنافس وبجوار الأساطين أو الجدران. وقد نصبوا في وسط المصطبة سماطا هو بساط من جلد جميل الصنع فوقه ملاءة من الحرير، وفوق البساط مائدة كبيرة الحجم، مستديرة الشكل، قصيرة، طولها شبر، وجاءوا بالأباريق البلور أو الفضة وفيها الأشربة والأنبذة، وبينها الأقداح على اختلاف أشكالها وألوانها. ويتخلل ذلك أطباق الفاكهة واللحوم الباردة ومزاهر الأزهار ونحوها، وقد فاحت رائحة المكان بالطيب العطر، فصعد الأمين إلى سريره، وأشار إلى ابن عمه فجلس، ثم التفت إلى الفضل وقال: «أراك لا تزال بثيابك؛ فاخلعها والبس ثياب المنادمة.» فأشار مطيعا، فصاح: «يا غلام، أحضر ثياب المنادمة.»
فجاءوا بثوب معصفر، وأصر الأمين إلا أن يجعل على رأسه إكليلا من الزهر مثله، فأطاع، ثم صفق الأمين فدخل القيم، فقال: «إلينا بالمغنيات. هل أتانا من الجواري أحد جديد؟»
فقال: «كلا يا مولاي، ولكن عندنا من المغنيات غير واحدة ممن ليس في بغداد أحسن منهن، حتى ولا في دار أمير المؤمنين. فهل آتي بهن؟»
قال: «أحضر الوصيفات بالمراوح أولا، ثم اختر لنا أحسن المغنيات نستمع لهن ريثما يأتي أولئك.»
فخرج، وبعد برهة أقبلت جارية تفتن الناظرين، يظهر من ملامحها أنها كرجية الأصل، دخلت المصطبة نافرة كأنها الغزال انفلت من شبكة الصياد، عليها قميص إسكندراني شفاف يشف عن أثوابها جميعا، وفوقه قرطق مفروج، أو هو القباء المفرد، وقد أشرق بياضها إشراقا باهرا، وجعلت شعرها طرة أسبلتها على جبينها، وتعصبت بعصابة قد نقش عليها بصفائح الذهب هذا البيت:
ما لي رميت فلم تصبك سهامي
صفحه نامشخص