ولو تأملت في تلك الهيبة لرأيت مصدرها العينين، ولم تكونا كبيرتين ولا واسعتين، ولكنهما ترسلان أشعة براقة، ولم يكن فيهما ذبول مثل سائر عيون الغواني، بل كانتا حادتين يشعر الرجل إذا اتجهتا نحوه أنهما اخترقتا صدره، وأصابتا قلبه، واستطلعتا خفايا سره. ولم يكن لون الفتاة أبيض مع تفاخرهم يومئذ بجمال ذلك اللون، بل كانت حنطية مشربة بحمرة، ولها مبسم ينطق بغير كلام، ويدل على عواطفها كما تدل المرآة على ما يقابلها، ورأى أبو العتاهية على جبينها عصابة مكللة بالجواهر، فدهش لهذه العصابة على الخصوص؛ لأنه لم يكن رأى مثلها من قبل. وأول من اتخذ العصابة المكللة بالجواهر علية بنت المهدي؛ أخت الرشيد، فعلت ذلك إذ كان في جبينها شيء من سعة شوه جمالها، فاستحدثت العصائب المذكورة لتستر ذلك العيب، فكان من أجمل الابتكارات. ولم يكن أبو العتاهية قد رأى ذلك؛ لأنه لم يكن شائعا.
وكانت قد صففت شعرها تصفيفا بشكل جمة تعرف بالجمة السكينية، نسبة إلى سكينة بنت الحسين؛ لأنها أول من صففها. ورأى أبو العتاهية في مقدم تلك الجمة طرة مرصعة بالماس على شكل طائر عيناه من الزمرد، وفي أجنحته فصوص من الياقوت الأحمر مرتبة بين فصوص الماس ترتيبا عجيبا، وقد اختلط تلألؤها بأشعة النور حتى توهم أبو العتاهية أن الغرفة مضيئة من نور تلك الطرة وليس من الشموع. وقد غطت رأسها بخمار من الحرير عنابي اللون مزركش بالقصب، وفي أذنيها قرطان كل منهما لؤلؤة واحدة بقدر بيضة الحمامة، وفي عنقها عقد من الجوهر في غاية التناسب.
وأما ثوبها فمن أثمن المنسوجات، ولكنه كان في غاية البساطة؛ لونه سماوي، وعلى حواشيه وشي دقيق، فذهل أبو العتاهية لمنظر تلك الفتاة وقال في نفسه: «لا شك أن هذه الحورية من أهل بيت الرشيد، ولا بد أن وراءها سرا إذا اطلعت عليه ابتززت الأموال به.»
ونظر في جوانب الغرفة فرأى الرجل والمرأة لا يزالان بثياب أهل الحجاز وقد جلسا على الأرض باحترام وهيبة، وخاصة الرجل. وكان كهلا قد وخطه الشيب. وتفرس أبو العتاهية في وجهه فلم ير فيه من ملامح أهل البادية، فعلم أنه تنكر بذلك الملبس لغرض ما. وأما المرأة فلما رأى وجهها تبين له أن أصلها جارية من الجواري وقد كبرت سنها. وأما صاحبته عتبة فلفتت انتباهه على الخصوص، وكانت جالسة أمام السرير تخفف عن مولاتها وتلاطفها. وتأمل أبو العتاهية في عتبة فرأى الجمال لا يزال في وجهها، وقد تغيرت عما كانت عليه من قبل، فازدادت سمنة وبضاضة. وكانت في تلك الليلة مكشوفة الرأس وقد ضفرت شعرها بضع عشرة ضفيرة، علقت في طرف كل منها قطعة من النقود أو الحلي، وفي عنقها عقد ثمين، وفي يديها الأساور والدمالج، وعليها ثوب لونه أحمر مشجر بعروق خضراء.
فدهش أبو العتاهية من تلك المناظر، واصطكت ركبتاه من التأثر، وأتعبه الانحناء؛ لأنه لم يكن يستطيع النظر من ذلك الثقب إلا إذا انحنى، على أنه ظل صابرا يصغي لما يدور من الحديث هناك، وأول كلمة طرقت أذنه ساعة وصوله إلى الباب عبارة عرف من لغتها أنها لصاحبته عتبة؛ وهي قولها : «لا بأس عليك يا مولاتي. لماذا تبكين؟»
فرفعت تلك الفتاة رأسها إلى عتبة، وضمت الطفلين إلى صدرها وهي تقول وصوتها مختنق بالبكاء: «قلبي يحدثني يا عتبة أنها آخر مرة أراهما فيها.»
فصاحت: «معاذ الله يا مولاتي، بل أرجو أن تتمتعي برؤيتهما مرارا في كل عام كما كنت تفعلين إلى اليوم. وهذا رياش - حفظه الله - لا يدخر وسعا في المجيء إلينا كلما أمرت، وعسى أن يقضي الله بإطلاق حريتك فيكونان معك في كل حين.»
فتنهدت الفتاة وقالت: «آه يا عتبة، إنك تتمنين محالا؛ لأن عدونا ظالم مستبد له السلطة المطلقة، وقد انغمس في ملذاته، وتمتع بكل ما تشتهيه نفسه، وأصبح لا يبالي بسواه؛ أهلك عطشا، أو مات جوعا، أو ذاب لوعة؟ إنه رجل لا شفقة عنده ولا رحمة، لا يهمه سوى ملذاته.» قالت ذلك وهي تخرج من كمها منديلا من الحرير مزركشا بالقصب مسحت به دموعها.
فقالت عتبة: «تلك حال الرجال على الإطلاق، يا مولاتي، فإنهم أصحاب السيادة، وقد فضلوا أنفسهم على المرأة، فحللوا لأنفسهم ما حرموها منه، وتمتعوا بما حظروه عليها. يتزوج الرجل عدة نساء، ويقتني الجواري والسراري، ويمنع المرأة من أن تتزوج برجل تحبه ويحبها، ولكن ...»
فقطعت الفتاة كلام الجارية وقالت: «ليس بين الرجال من عمل عمل أخي، ولا بين النساء من أصيب بمصابي ... وزوجني برجل هو جمعني به وحببه إلي وعقد له علي، ثم حرم علينا ثمار ذلك العقد ما حلله الله لأحقر خلقه. وهو مع ذلك يخطر في قصر وحوله مئات من الجواري الروميات والتركيات والفارسيات والسنديات، وفيهن البيض والصفر والحمر والسمر والسود.» ولما بلغت إلى هنا غصت بريقها، وشرقت بدموعها، وكان الغلامان في حجرها وكبيرهما ينظر في وجهها نظرة الاستغراب وهي تتكلم، فلما رآها تبكي شاركها في البكاء، ولما رآه أخوه يبكي بكى أيضا، وبكت عتبة ... وعلا ضجيج البكاء في تلك الغرفة.
صفحه نامشخص